
الواسطة في المستشفيات… حين يصبح العلاج امتيازًا لا حقًا
بقلم: محمود سعيد برغش
في مشهد كاريكاتيري ساخر، لكنه يعكس وجعًا حقيقيًا، نرى رجلاً أنيقًا يدخن سيجارًا فاخرًا يُنقل على نقالة المستشفى بكل راحة، ليس لأنه في حاجة إلى العلاج، بل لأنه “يملك واسطة”. هذه الصورة ليست مجرد نكتة، بل لسان حال مئات المرضى الذين يموتون يوميًا في الممرات لأنهم فقط “مواطنون عاديون”.
المعاناة تبدأ من لحظة دخول المستشفى، حين تُسأل أولًا: “معاك حد؟”، قبل أن تُسأل عن حالتك الصحية. المواطن البسيط يتنقل بين المستشفيات، يحمل على كتفه أوجاعه وتاريخه الطبي وأوراقًا لا تُقرأ، لكنه لا يجد سريرًا ولا طبيبًا متفرغًا، في حين يتم تجهيز غرفة خاصة وطاقم كامل لشخص “عنده ظهر”.
ولم تعد الكارثة مقتصرة على قطاع الصحة فقط، بل امتدت إلى التعليم أيضًا. تحوّلت مهنة الطبيب إلى تجارة عند كثيرين، إلا من رحم ربي. من يُفترض بهم أن يكونوا ملائكة رحمة، أصبحوا يسألون عن المال قبل أن ينظروا إلى الجرح. والتعليم كذلك، لم يعد رسالة، بل سلعة تُباع في السناتر والمراكز، وأصبح المعلم لا يشرح إلا في الدروس الخصوصية، تاركًا ضميره على باب الفصل.
وعندما تُواجه هؤلاء، يسارعون بالرد: “الأسعار أصبحت باهظة… والراتب لا يكفي”. نعم، الأسعار باهظة، لكن على من؟ على الجميع. على الموظف الذي يقضي يومه بين المواصلات والمكاتب، على العامل الذي يُرهق جسده تحت الشمس، على البائع المتجول الذي لا يملك حتى سقفًا يحميه، وعلى المزارع الذي لا يكسب ما يسد به رمق أطفاله. فهل يُبرَّر الظلم بالمعاناة؟ وهل تُباع الرحمة في مزاد الغلاء؟
وكأن المواطن لا يكفيه كل ذلك، حتى يجد نفسه في مواجهة يومية مع جشع السائقين والبائعين. السائق يرفع الأجرة دون مبرر، ولا يُراعي طفلًا أو عجوزًا، والبائع يزيد في السعر كل ساعة، وكأن لقمة العيش أصبحت فريسة لا بد أن يدفع ثمنها المواطن البسيط من صحته وكرامته.
من يتحمّل هذه الفاتورة؟ المواطن الكادح، الذي يدفع الضرائب، وينتظر الخدمة، لكنه لا يحصل إلا على الإهانة. يُطلب منه الصبر، بينما يرى بعينيه كيف يُخترق الصفّ أمامه، وكيف يُعامل “الأقوياء” وكأنهم ملوك.
إن استمرار هذا الواقع كارثة تهدد بقتل ما تبقى من ثقة في مؤسسات الدولة. نحن بحاجة إلى ثورة أخلاقية داخل المهن الإنسانية، وقوانين صارمة تعيد الحق لأصحابه، وتمنع أن تكون “الواسطة” أقوى من الوجع، وألّا يتحوّل كل صاحب مهنة إلى تاجر في سوق لا يعرف الرحمة.
-الواسطة في المستشفيات… حين يصبح العلاج امتيازًا لا حقًا