
تأسيس معاملة الناس على قاعدة التماس المعاذير
بقلم / محمـــد الدكـــروري
الحمد لله الولي المولى، رب الأرض والسماوات العلى، سبحانه يعلم السر وأخفى، وسامع النجوى وكاشف البلوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، أقام الكون على مقتضى علمه ودبره بإرادته وهو العالم بما تبطنه الضمائر وما تخفيه السرائر وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، خير العاملين بدين الله رب العالمين وسيد الغر المحجلين، فاللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد إنه يقتضي ضرورة تأسيس معاملة الناس على قاعدة التماس المعاذير لهم والرفق بهم، والإشتغال بتعليمهم وإزالة جهلهم وتكثير عددهم، بدل الإشتغال بتصنيفهم والحكم عليهم، وتقليل عددهم بإخراج من هو مسلم من دائرتهم، بل والفرح بذلك والذي يدل عليه شدة تكلفهم لهذا الأمر، وعظيم تطلبهم له.
حتى صار ديدنهم في غدوهم ورواحهم، وتأمل المُدرك الذي أسس عليه العلامة ابن الوزير اليماني التحذير من التكفير بالشبهة لطوائف الإبتداع، مما يصلح أن يكون منطلقا لتقرير أن المفسدة في تكفير عموم المسلمين أشد، ولذلك كان أولى بسد باب الجراءة عليه، لكونه أشد مناقضة لمقصود الشارع في فتح أبواب إستمالة الخلق للإسلام، وتكثير سواد المسلمين، والفرح بازدياد أعدادهم، وقال رحمه الله تعالى ” وكم بين إخراج عوامّ فرق الإسلام أجمعين، وجماهير العلماء المنتسبين إلى الإسلام من الملة الإسلامية وتكثير العدد بهم، وبين إدخالهم في الإسلام ونصرته بهم وتكثير أهله، وتقوية أمره، فلا يحل الجهد في التفريق بتكلف التكفير لهم بالأدلة المعارضة بما هو أقوى منها أو مثلها مما يجمع الكلمة ويقوي الإسلام، ويحقن الدماء، ويسكن الدهماء حتى يتضح كفر المبتدع إتضاح الحق الصادق وتجتمع عليه الكلمة”
وإن من أظهر علامات ضحالة فهم أولئك الغلاة هو تعلقهم بأفراد من النصوص يجعلونها أصلا في بابها، متنكبين طرائق سائر أهل العلم، والمتمثلة في رد الجزئيات إلى الكليات، وفهم الأفراد في ضوء قواعد الشريعة ومقاصدها العامة، وملاحظة مقتضيات الجبلة التي هي بعض سنن الله في الخلق، والتي من أظهر صورها النفور من كل مسلك مناقض للسماحة، موقع في الإعنات والمشقة، وإن السماحة لما كانت أكمل وصف لإطمئنان النفوس إلى هذا الدين، وأجمل حلية لإقبال الخلق عليه، فقد جعل الله لها في الفطرة ما يسندها، وركز لها في الجبلة ما يعضدها، ذلك أن أمور الفطرة ترجع إلى الجبلة التي خلق عليها الناس، فهي كائنة في نفوس سائر الناس، سهل عليها قبولها، ولذا وجدنا من الفطرة نفور الناس من الشدة والإعنات، حيث قال تعالى ” يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا ” وقال العلامة ابن عاشور.
“أعقب الإعتذار الذي تقدم بقوله تعالي ” يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم” بالتذكير بأن الله لا يزال مراعيا رفقه بهذه الأمة وإرادته بها اليسر دون العسر، إشارة إلى أن هذا الدين بيّن حفظ المصالح ودرء المفاسد، في أيسر كيفية وأرفقها، فربما ألغت الشريعة بعض المفاسد إذا كان في الحمل على تركها مشقة أو تعطيل مصلحة، كما ألغت مفاسد نكاح الإماء نظرا للمشقة على غير ذي الطول، والآيات الدالة على هذا المعنى بلغت مبلغ القطع كقوله ” وما جعل عليكم في الدين من حرج” وقوله تعالي ” يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ” وقوله تعالي ” ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم ” وفي الحديث الصحيح يقول صلي الله عليه وسلم “إن هذا الدين يسر ولن يشادّ هذا الدين أحد إلا غلبه” وكذلك كان يأمر أصحابه الذين يرسلهم إلى بث الدين، فقال لمعاذ وأبي موسى “يسّرا ولا تعسّرا” وقال “إنما بعثتم مبشرين لا منفرين”
تأسيس معاملة الناس على قاعدة التماس المعاذير
وقال لمعاذ لمّا شكا بعض المصلين خلفه من تطويله “أفتان أنت” فكان التيسير من أصول الشريعة الإسلامية، وعنه تفرعت الرخص بنوعيها، وقوله تعالي ” وخلق الإنسان ضعيفا ” تذييل وتوجيه للتخفيف، وإظهار لمزية هذا الدين وأنه أليق الأديان بالناس في كل زمان ومكان، ولذلك فما مضى من الأديان كان مراعى فيه حال دون حال، ومن هذا المعنى قوله تعالى ” الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا “