اخبار

سقراط والصوت الداخلى

سقراط والصوت الداخلى

 

بقلم :الدكتورة عزيزة صبحي أستاذ الفلسفة بجامعة الإسكندرية 

 

    لقد عايش سقراط خبرة التواصل مع ذلك الصوت الباطنى الذى كان يقول إنه يسمعه فى نفسه و ينهاه عما اعتزم القيام به من أفعال قد تضره، ومن ثم، يرى فيه تلك الروح التى تلهمه، ويمثل هذا الافتراض إشكالية مهمة في فلسفة سقراط ، وهناك جدل كبير حول حقيقة هذا الصوت، وقد تمت ترجمة المصطلح اليونانى “الدايمون” الدال على هذا الصوت بالعربية إلى عدة كلمات منها؛ المرشد، الصوت الإلهى، العرافة، الجنى، المشيرة، العلامة، ولكن تلك الترجمة ، حاولت تقريب دلالته، لكنها لم تقدم ترجمة دقيقة، لذا فضلت الإبقاء على المصطلح اليوناني دون ترجمة.

   وتنقل روايتا “أفلاطون” و”إكسينوفون” إلينا هذا المفهوم عن “الدايمون”، لكنهما لم يتفقا فيما قالاه عنه، حيث تلون رأيهما بفكرهما الخاص، ولكنا نعتمد عليهما لأنهما من الشهود الأكثرثقة عن سقراط، وذلك لاتصالهما الوثيق به، فقد قدم لنا إكسينوفون صورة عن “الدايمون” بوصفه علامة إلهية، ولقد أكد من خلالها خبرة “سقراط” به وذلك بسبب طبيعته وتقواه، مما جعل آلهة أثينا يفضلونه بامتياز التواصل الإلهي والذي يتميز به عن كافة البشر، ، أما أفلاطون فقد استخدم الكلمة بوصفها صوتاً داخلياً نابعاً عن الإلهة، اعتاد تحذير “سقراط” من القيام بفعل ما، وذلك منذ طفولته، ولقد تحدث “سقراط” عن “الدايمون” بوصفه كشفاً إلهياً من نمط خاص .

لقد آمن “سقراط”، إذن، بذلك الصوت الداخلي وهو ما أكدته الروايات المختلفة عنه –ولكن كيف اتصل “سقراط” بتلك العلامة أو الصوت الداخلي؟

قد تكون حال سقراط أثناء سماع هذا الصوت هى حال البشر أثناء نومهم ، فقد يسمعون أصواتًا ، وعند اليقظة قد تركز عقولهم على مغزى الحلم الذي اتصل بهم (ربما من قوى عليا) ، أما سقراط فإنه يمتلك عقلاً نقياً متحرراً من العاطفة والهوى الجسدي، ومن ثم، فمن اليسير أن يتصل بذلك الصوت ويستجيب لما يختبره في الحال.

اتصل “سقراط” إذن “بالدايمون” وكانت هناك محاولات عديدة لتفسير هذا الاتصال ، منها المحاولة سالفة الذكر، ولكن هل يُعد هذا الاتصال خبرة سيكولوجية أم بارا سيكولوجية أم أن دايمون “سقراط” كان ضرباً من الجنون والهوس؟

    لقد اهتم السيكولوجيون بدراسة “دايمون” “سقراط” في القرن التاسع عشر، وقامت العديد من الدراسات حول هذا المفهوم، ولقد تم تناوله – أي “الدايمون” – بوصفه تجربة ذاتية لاشعورية ،ولم يكن في الكتابات السيكولوجية حتى عام 1960 سوى أربع إشارات تشير إلى “الدايمون” لكن لا واحدة منها تصوره بدقة، ولم يوجد بها سوى دراسة واحدة عام 1948 تشبه سلوك “سقراط” بالمرض العقلى. يرتبط “دايمون” “سقراط” إذن – وفقاً لعلماء النفس بالذات اللاواعية- ويماثل الأنا الأعلى عند فرويد.

    كذلك هناك من تناول ذلك “الدايمون” بوصفه صوت العقل أو الوعى يستند هذا التصور إلى ما يتميز به “سقراط” من خبرة سريعة للحكم تصاغ بمعرفة الموضوع وتمارس بالخبرة وتستنتج من العلل والأسباب، ولا شك أن هذا يحدث في عقل نقي مفعم بالعدالة ومعرفة الذات، تقطنه قوى التوقع والحكم السديد . فصوت “سقراط” الداخلي إذن لم يكن دافعاً، يحفز الإرادة، لكنه وظيفة نقدية، ويلجأ “سقراط” إلى ذلك المرشد الداخلي والذي اضفى عليه طابعاً دينياً، ومن ثم كانت أفعاله بشرية عقلية، ذات صبغة إلهية، حيث يبدو له الحس النقدي بوصفه إلهاماً مباشراً.

   كذلك تصنف خبرة “سقراط” “بالدايمون” بوصفها خبرة باراسيكولوجية ، وأننا قد لا ننكر حقيقة هذه الخبرة ، بمعنى أن التجربة نفسها حقيقية، “فسقراط” ربما يكون قد سمع صوتاً داخلياً بالفعل، لكن هل يُعد هذا الصوت دليلًا على الجنون استنادًا إلى القول بأنه قد يكون نوعًا من الهلاوس ؟ لكن حتى وإن كان الأمر كذلك، فلا يمكن أن تكون تلك الهلاوس دليلاً على المرض العقلي، فأغلب الموهوبين والعباقرة قد تحدثوا عن مثل هذه الأمور ، فالعبقرية قد ترتبط بالجنون، وإذا كنا اليوم نفترض أن الإنسان قد يكون مجنوناً أو يعاني من ضلالات شديدة إذا ما ادعى سماع صوت داخلى ، فإنه ليس هناك من بين معاصري “سقراط” أو مفسريه اللاحقين من تحدث عن جنونه، وإنما نظروا إليه بوصفه مميزاً في جوانب عدة، قد يكون هذا الصوت منها، وربما افترضوا أنه ليس للعامة إدراك مثل تلك الخبرة.

سقراط والصوت الداخلى

    عاش “سقراط” حقيقةً، تلك الخبرة “بالدايمون”، وربما كانت تلك الخبرة أفكاراً ورؤى واعية، وربما كانت ضرباً من الجنون، هذا إذا ما تبنينا الرأي القائل بملازمة العبقرية للجنون، وربما كانت صوتاً للإله أو للضمير، وربما كانت جميعها معاً، حيث إن الإنسان هو تلك المنظومة التي تمتزج فيها العبقرية بالجنون، ويتلون فيها الموضوعي بالذاتي، والداخلي بالخارجي في آن واحد، وتخرج الأفعال فيها عن الوعي واللاوعي، وتختمر جميعها بنزعة روحية تتصل بشكل أو بآخر بنفس الإنسان وعقائده. لكنها ، تجربة “ذاتية” عايشها “سقراط” وأثرت في حياته بصفة عامة، وفي فلسفته بصفة خاصة.

سقراط والصوت الداخلى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى