
شاشاتنا الصغيرة جيوش الغزو الرقمي الأخطر
✍🏻 بقلم اللواء/ محمد فريح الحارثي : جدة:-
لطالما ارتبط مفهوم “الغزو الفكري” و”الفوضى الخلاقة” في أذهاننا بصورة الماضي: إذاعات موجهة، برامج ملغومة، ومحاولات ممنهجة من قوى خارجية لتفكيك نسيج اي مجتمع مستهدف عبر إثارة نعرات طائفية أو تعصب أو بأي وسائل الاثارة والتأليب. وكان السلاح الدفاعي الوحيد هو التوعية والتثقيف، بخطط دفاعية بالتعاون بين المؤسسات الأمنية والثقافية والتعليمية انذاك. لكن الثورة الرقمية اليوم لم تقلب الطاولة على طرق الغزو التقليدية فحسب، بل سحقتها وأتت بسلاح جديد، لا نراه في أحيان كثيرة رغم أنه ملتصق بكفوف أيدينا وتحت وسائد نومنا ليلاً ونهاراً (هواتفنا الذكية).
لم تعد هذه الشاشات الصغيرة مجرد نوافذ للاتصال أو أدوات للتسلية البريئة.
بل تحولت إلى بوابات رئيسية لغزو فكري من طراز جديد، أكثر خبثاً وسرعة وتأثيراً بألف مرة من أي غزو سابق. إنها ليست مجرد ناقلة للمحتوى، بل هي مهندس نشط للوعي ومُشكل الهوية والاتجاهات والميول ومستهدف الأخلاق. تحت ستار ما يُسمى بالحرية المطلقة والانفتاح على العالم، تتدفق بكم هائل من المحتوى المصمم بعناية فائقة سواء عبر منصات التواصل العلنية أو المجموعات المغلقة لاستهداف غرائزنا الأعمق، وتشويه قيمنا، وإعادة صياغة هويتنا الثقافية وفقاً لمصالح وأجندات قد نجهل مصدرها الحقيقي؟.
والأخطر هو التسارع المذهل للنتائج الكارثية التي نلمس آثارها كل يوم من خلال ما نراه من تفكك أسري وضعف في روابط العلاقات الاجتماعية، وانحدار تدريجي في المبادئ والقيم والاخلاق خصوصاً لدى النشء، وانقسامات عصبية خفية تنخر في جسد المجتمع على أسس تافهة أو مستوردة، رياضية، ثقافية، فنية الخ. إن هذا التسارع ليس طبيعياً إنه دليل على فاعلية هذا الغزو العميق، وهو ينذر بتهديد لتماسك المجتمع في المستقبل إذا استمر الوضع على حاله.
فكيف نواجه هذه التهديدات والتحديات وكيف سيكون اثرها على عقولنا وأخلاق وأرواح أجيالنا؟
الحل بالتأكيد لا يكمن في العودة إلى أساليب التوعية الدفاعية التقليدية وحدها، ولا في الانغلاق الرقمي المستحيل. التحدي يستدعي تحركاً استراتيجياً شاملاً وعاجلاً على عدة مستويات وهي:
1. تطوير مناهج تعليمية قوية تبدأ من المراحل المبكرة، تُعلم الأجيال كيف تتعامل مع المحتوى الرقمي، وكيف تُميز بين الحقيقة والتزييف، وكيف تُحلل الدوافع الخفية، وتُحصن العقول بمناعة فكرية ضد التلاعب والاستهداف الممنهج.
2. سن قوانين وتشريعات على المستويين الوطني والخليجي والعربي وربما العالمي عبر التنسيق التعاوني تحمي خصوصية المستخدمين، وتحد من جمع البيانات المسيء استخدامها، وتُجرم المحتوى الضار والمضلل، وتُلزم المنصات بالشفافية والمساءلة.
3.دعم تعاوني حكومي وقطاع خاص مستدام (مالي وتقني وبشري) لإنتاج محتوى هادف، جذاب، وعالي الجودة ينافس السائد السلبي على المنصات. بمحتوى يُعزز المبادئ، والقيم، والاخلاق، ويحافظ على التراث والتاريخ، ويُبرز الإنجازات الاجتماعية والوطنية بلغة العصر وبجاذبيته.
4. بناء استراتيجيات وطنية ثقافية وإعلامية ذكية تغزو خوارزميات المنصات الرقمية، لتعزيز قيم التسامح الديني والمجتمعي وتعزز التماسك الأسري، الاحترام المتبادل، والاعتزاز بالتقاليد السعودية والإسلامية الأصيلة دون انغلاق.
ختاماً إن التساؤل الجوهري الذي يسدح نفسه ليس هل سنفعل شيئاً؟، بل السؤال هو متى؟ هل ننتظر عشر سنوات أخرى ونحن للأسف نُشاهد الغزو يبدأ من أبناء وطننا سواءً من الذكور أو من الأناث اللواتي إنسلخن من مبادئ القيم والاخلاق الدينية والاجتماعية، واصبحن بما يقدمن من محتوى هادم وفاضح يخترق جدران بيوتنا وشاشات هواتفنا؟ أم نتحرك الآن، بإرادة جماعية حازمة، قبل أن يصير التمزق الاجتماعي والانهيار الأخلاقي حالة يصعب إصلاحها؟
المستقبل يبدأ حقاً من تلك الشاشة الصغيرة في أيدينا وأيدي أبنائنا. لكن القرار الحاسم، قرار تشكيل هذا المستقبل وحماية كينونتنا الجماعية، يبدأ من إرادتنا المشتركة اليوم. المعركة شرسة، فهل نُدرك خطورتها قبل فوات الأوان؟
شاشاتنا الصغيرة جيوش الغزو الرقمي الأخطر
✍🏻 بقلم اللواء/ محمد فريح الحارثي : جدة:-