
مخاطبة الضمائر الحية
من سلسلة أفكار بصوت مرتفع
بقلم/ زينب كاظم
أحيانًا تستوقفنا مشاهد لمواقف عديدة ومختلفة وكلها تندرج تحت عنوان واحد وهو غياب الإنسانية الضمائر الميتة فعندما نرى أم تضرب ابنتها بوحشية من أجل قرط ذهب سرقه زوجها وكانت تظن أن ابنتها من عبثت به وأضاعته فهذا يدل على انعدم الرحمة والإنسانية وعندما يطرد ابن والده أو والدته المسنين من بيته في هذا الليل والبرد القارص لمجرد أن زوجته لا تريدهما فهذا ضمير ميت وعندما يضرب معلم طفل في الصفوف الأولى لمجرد أنه انفرد به بعيدًا عن أهله لأسباب تافهة ويمنعه حتى من الذهاب إلى دورة المياه لقضاء حاجته ويجعله يتبول على نفسه أمام التلاميذ ويصبح أضحوكة لهم ويكسر نفسيته بقسوة ولربما يصاب من جراء ذلك بصدمة تجعله يعاني من خدوش في الروح وأمراض نفسية فهو بهذا ذبح ضميره بيديه وصب جأم غضبه وأمراضه النفسية وعقده على أطفال خرجوا للتو من أحضان الأهل ليخيفهم بعود حديد وصرخات قوية وتهديدات وكأنهم في سجن ،وعندما يستغل مديرًا عامًا نفوذه وسطوته لإيذاء موظفيه والتلاعب بأرزاقهم ومحاربتهم نفسيًا وبشتى الطرق التي لا تخطر على بال إبليس فهو بهذا ذبح ضميره بسكين حاد ،وعندما يقتل شاب صديقته ويحرقها ويسرق مالها بدم بارد أو شاب يغتصب بنت ويتركها تحت عنوان الحب فيلوث أجمل حرفين بالوجود فهما بهذا أبادا كلمة رحمة وغيرها من الصور التي تطلق النار في صميم قلب الإنسانية وتنهي شيء اسمه ضمير حي ،فأين نحن من أخلاق أجدادنا القدامى الذين ساروا على مقولة (العفو عند المقدرة )
قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” لكن هناك من ابتعد كل البعد عن الدين والأخلاق فحتى داخل العائلة الواحدة ارتفعت معدلات الجريمة فأين عنصر الثقة التي تجعلنا ننام تحت سقف واحد مع أزواجنا وأولادنا وأمهاتنا وآباؤنا وإخواننا بكل راحة بال .
فلا وازع ديني فيتق الناس ربهم ولا رادع أخلاقي فيحترم الناس المبادىء ولا خوف من القانون إطلاقًا وعن ذلك عندما غصنا في عالم الإنترنيت وجدنا قصة عبر وسائل التواصل لسيدة أرادت أن توصل للناس ماذا يستطيع أن يفعل البعض عند غياب كل الخطوط الحمراء التي تمنع الناس من أذية بعض وهذه المرأة لا نعرف ماذا نطلق عليها هل هي دكتورة أم بروفيسورة أم مجرد مجنونة ومن نتحدث عنها هي مارينا ابراموفيتش من صربياوهي مواليد ٣٠نوفمبر عام ١٩٤٦ وتعتبر من رواد فن البريفورمانس ويقصد به الأداء الفني وكانت أغلب عروضها استفزازية تستفز الناس والجمهور ودومًا مثيرة للجدل ولديها شريكها بالعمل واسمه يولاي وهنا لا نريد أن نخوض بأمور معقدة وغير مفهومة لكن سنقرب الفكرة أن كل عروض تلك السيدة هي تتضمن تناغم جسدي أي علاقة بين جسدين أي أعمالها جسدية يؤدونها هي وزميلها ويسمونها الفن الجسدي إذن مارينا تعتبر رائدة من رواد هذا الفن أي تضع لغة الجسد في أعمالها الفنية إذ أن الفنان أحيانًا يجعل جسده هو مادة للعمل الفني ومن أشهر عروض ماريا هو بقية الطاقة وقامت به في امستردام عام ١٩٨٠ وكانت تستخدم في العرض قوس وسهم فوقفت مع شريكها في العمل يولاي وقفة مرعبة جدًا إذ كانت تمسك بالسهم وصديقها يمسك القوس والسهم متوجه مباشرة على قلبها وكلاهما يسحب بقوة واستمر العرض لمدة تجاوزت الأربع دقائق وكانا الإثنان يضعان ميكروفونات صغيرة جدًا ليرصد الإثنان دقات قلبيهما ومع مرور الوقت كانت تزيد دقات قلوبهم والغرض من العرض أنها كانت تريد أن توصل رسالة للناس إعادة النظر بمفهوم الثقة ومعروف أن الثقة مهمة جدًا للناس إذ قامت عليها دول ومجتمعات وتطورت علاقات تجارية وكل العلاقات الأسرية والإجتماعية والأخوية والصداقات بنيت عليها فأرادت أن توصل فكرة للناس إلى أي مدى ممكن أن يثق الناس ببعض وأرادت أن توصل مفهوم الثقة بسلاح قاتل مثل السهم والقوس وصورت الثقة بذلك السلاح وكان كلاهما يمسك بطرف ذلك السلاح فعندما كان يولاي يمسك القوس وهي تمسك بالسهم فهي بهذا وضعت كل ثقتها فيه وأرادت أن تجرب إلى أي مدى ممكن أنه لن يخون تلك الثقة أذ أنه إذا أفلت القوس بأي لحظة ستموت هي ورغم أن هذا المشهد لم يزد عن أكثر من أربع دقائق واثنا عشر ثانية أي أنه أقصر مشاهدها إلا أنه جعل الناس على أعصابهم وهم يفكرون ما درجة الثقة التي جعلتها تثق فيه تمام الثقة أنه لن يفلت السهم ولن تموت على العموم مر المشهد ولم يحدث لها شيئًا لكن ما دار في أذهان الناس أنه ما درجة الثقة التي تجعل مارينا تثق بيولاي ولا تفكر ولو للحظة واحدة أنه سيفلت السهم بحثًا عن السبق الصحفي مثلًا أذ أنه لو أفلته لصار سبقًا صحفيًا وظل الناس يتكلمون به سنينًا طويلة يولاي قتل مارينا بالسهم لكنها كانت واضعة كل ثقتها فيه وهو لم يخن تلك الثقة وهي أوصلت رسالة أنه كيف اثنان مستقلان فكريا أن يضعا ثقتهما ببعض ولا يخونا تلك الثقة وحدث .
لكن هذا العرض بسيطًا جدًا قياسًا بباقي عروضها أذ انها قامت بعرض آخر وجعلت الناس تتحدث به طويلًا وهو يعتبر من أغرب عروضها وقدمت هذا العرض عام ١٩٧٤ وكان يشاهد هذا العرض جمهور واسع جدًا وفي هذا العرض جلست مارينا على كرسي وأمامها طاولة لمدة ست ساعات من الساعة الثامنة مساءً إلى الساعة الثانية صباحًا وطلبت بإصرار ممن ينظمون العرض ومن الأمن بأن لا يتدخلوا مهما حدث وكان على الطاولة موضوع حوالي ٧٢ حاجة ليستخدمها عليها الجمهور منها أشياء خفيفة ولطيفة منها وردة وصابونة وريشة ومشط ومناديل ورقية (كلينكس )وكان على الطاولة أيضا أشياء مخيفة ومرعبة مثل مقص وسكينة ومنشار ومسدس وسلاسل حديدية وكل هذه الأشياء أعطت من خلالها الجمهور الحق ليتصرفوا معها كيفما أرادوا وقالت لهم :
لكم الحق بلمسي أو اللعب بشعري وأنتم أحرارًا فيما تفعلونه بي ولن أظهر أي ردة فعل معكم وكان الهدف من العرض هو معرفة ما سيفعله الناس فينا ومعنا في حال أعطيناهم مطلق الحرية لفعل ذلك وإلى أي حد سيصلون .
لقد جلست مارينا وبدأ العرض واستمر لدقائق والجمهور أيضا جالسًا مترقبًا مترددًا وبعد ذلك بدأ الجمهور يتحرك لكن بلطف وكانت الأمور تسير بشكل طبيعي فهناك البعض من الناس أعطوها وردة والبعض سلموا عليها والبعض قبلوها أي أن سلوكهم لأول ساعتين كان مهذب لكن بعد ذلك صعد شخص ما للمسرح وصفعها بقوة على وجهها وعينيها وكانت هذه الشرارة الأولى التي حركت الشر داخل الناس فصعد شخص آخر وصفعها بقوة كذلك على وجهها وبعد ذلك صعد شخصًا آخر وأخذ يتلمس جسدها أي تحول الأمر إلى تحرش جنسي فيما صعد شخص آخر وحاول أن يغتصبها أما بعض الناس فأخذوا الشفرات والسكاكين وأخذوا يقطعون ملابسها والبعض الأخر خلعوا منها ملابسها كذلك الآخرين من الجمهور أخذوا كاميرا فورية وصوروها عارية وأخذوا يعلقون صورها على رأسها وجسدها
وأخذ البعض الآخر من الجمهور بجرح جسد مارينا بالسكاكين وكل ذلك وظلت مارينا ثابتة ملتزمة بالعرض ورفضت تدخل منظمي العرض أو رجال الأمن رغم أن البعض حاولوا اغتصابها والبعض حاولوا قتلها إذ أن أحد الجمهور قام بوضع المسدس في يدها وسحب زناده ووضع اصبعها عليه ووجهه على وجهها ورقبتها لكنها لم تظهر أي مقاومة فقط انهمرت دموعها.
وقد يتساءل البعض كيف امتنع من أراد اغتصاب أو قتل مارينا رغم أنها صامتة وموافقة والجواب هو أن باقي الجمهور هو من منعهم من ذلك إذ قامت مثلًا سيدة وأخذت قطعة منديل ورقية أو شاش وعقمت جروح مارينا فيما قام شخص أخر بخلع سترته وستر بها مارينا وألبسها إياها وبالتدريج أخذ الجمهور ينقسم قسمان قسم يدافع عنها وقسم يريد أن يكمل أذيتها من إغتصاب أو تحرش أو قتل حتى حدثت مشادة كلامية وعراك شديد بين الجمهور.
وهناك ناقد مسرحي اسمه(توماس ماكفيلي لخص ما حدث بالعرض وقال أن العرض بدأ بشكل جيد حتى قام أحد الحضور بلف مارينا حول نفسها وقام آخر برفع يديها وقام ثالث بلمسها بلطف وبعدها بدأت الليلة تصبح ساخنة أكثر بعد مرور الساعة الثالثة من العرض كانت ملابسها كلها تقطعت بالشفرة والمقص ونفس تلك الأدوات قام البعض بتجريحها في جسدها فيما قام شخص وجرحها في رقبتها وجاء شخص وقام بمص الدم الذي خرج من رقبتها وقال أنه حدثت الكثير من الإعتداءات الجنسية البسيطة لها لكن الفنانة مارينا كانت ملتزمة بشروط وتعليمات العرض لدرجة أنها لم تقاوم الإغتصاب ولا حتى القتل بعدها بدأ ناس من الجمهور بحمايتها يقفون حولها ويحمونها حتى قام أحدهم بوضع المسدس في رأسها وهناك حدث العراك بين الجمهور قسم يحاول حمايتها والبعض الآخر يريد أذيتها مهما كان حتى جاء رجال الأمن في الساعة الثانية صباحًا وقالوا انتهى العرض وخرج الجميع .
إن هذا العرض يكشف لنا الجانب الغريب في النفس البشرية عندما لا يكون لها أي حدود أي أن الناس عندما يعطونهم الحق بفعل ما يريدون بلا قيود أو قوانين أو ردع الله وحده العالم ما سيفعله البشر ،فمهما كان المجتمع ملتزم ومتعلم ومثقف لا نعلم ما سيصلون إليه في الإنحطاط إذا لم يكن هناك رادع أو قوانين والدليل أنه كل الجمهور الذين جاؤا لعرض مارينا كان جمهورا مثقفا والبعض كان ملتزما كذلك لكن هذا ما حدث إذ أنها كانت تريد أن توصل للناس بصورة عملية ماذا يفعلون عندما يعطون كافة الصلاحيات بلا موانع أو عقوبات إذ صاروا أشبه بالحيوانات المفترسة خصوصا المجتمعات التي تطالب بالحريات وتقول نحن أحرار بما نفعل لكن في الحقيقة هناك الكثيرين لا يفهموا معنى كلمة حرية وينصرفون بطريقة همجية ،وهنا السؤال الذي يطرح نفسه إلى أي مدى ممكن للإنسان أن ينساق خلف رغباته إذا شعر بالحرية المطلقة بلا قوانين أو عقوبات بلا شرطة أو سجن أو اعدامات بكل تأكيد سيفعل الناس أبشع مما فعل الجمهور بمارينا لكننا لا ننسى أن هناك البعض من الجمهور تعاطف معها ودافع عنها وبقوة وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أنه داخل كل انسان مشاعر مختلفة تتراوح ما بين الخير والشر ففي داخل النفس البشرية الغيرة والحقد والحسد والرغبة في القتل وكذلك الحب والمودة والتعاون والتعاطف ومحبة الخير للآخر بنسب تختلف من شخص إلى آخر لكن نسبة الشر داخل النفوس أكثر والدليل عرض مارينا الذي اشتهر وأصبح حديث الناس بالسبعينيات من القرن الماضي والآن وبعد دخول التكنولوجيا ووسائل التواصل وقلة تطبيق القانون في الكثير من البلدان والإبتعاد عن الدين وأكل الحرام انتشرت الجريمة والإنحلال الأخلاقي وغيرها فإلى أي مدى سنصل؟
وماذا نفعل كي يعود الناس إلى الأخلاق والقيم والمبادئ والدين؟
نحن خاطبنا هنا أصحاب الضمائر الحية لأن من ذبح ضميره بيديه لا يبصر إطلاقًا وفقكم الله.