أبو ذَرّ الغِفَاري.. الصحابي الذي لا يُشبهه أحد
بقلم: دعاء زيدان
مدرس مساعد الفقه بجامعة الأزهر
استوقفتني سيرة هذا الصحابي الجليل: (جُندَب بن جُنادة) وكنيته أبو ذَرّ الغِفَاري -رضي الله عنه- هذا الصحابي الذي يتميز باختلافه عن بقية الصحابة، صحابي من طراز فريد في عقله وفكره واستقلاله، كان من أهم صفاته -رضي الله عنه- اقتفائه أثر الحق أينما كان، وصدقه الذي لا ينحرف عنه أبدًا، وزهده الشديد الذي لم يتحمل أحد أن يجاريه فيه، وحرصه على وحدة صف المسلمين.. كان جديرًا بثقة النبي ﷺ فما خذله أبدًا.. وكان أول من حيّا رسول الله ﷺ بتحية الإسلام.
كان -رضي الله عنه- لا يبالي أن يكون وحيدًا ما دام على طريق الحق.. وقد بايع رسول الله ﷺ أن لا تأخذه في الله لومة لائم..
كان أبو ذر -رضي الله عنه- يأبى عبادة الأصنام وكذا الشرك بالله قبل بعثة النبي ﷺ بثلاث سنوات، ثم عندما علم ببعثة النبي ﷺ أرسل أخاه ليقتفي أثر هذا الأمر ولم يشفه رد أخيه عندما قال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلامًا ما هو بالشِّعر. فقال: ما شَفَيتني مما أردت.. وذهب بنفسه ليستقصي الأمر.. وعندما أتى مكة تعامل بحكمة ولم يفصح عن أمره حتى استنطقه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وأعطاه العهد والميثاق، وهداه إلى طريق النبي ﷺ فما لبث أن قابل نبي الله ﷺ حتى أسلم فكان رابع أو خامس من أسلم، فقال له النبي ﷺ: “ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري” قال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فجهر بأن لا إله إلا الله؛ فضربه القوم ضربا شديدًا، حتى أنقذه العباس -رضي الله عنه- فلم يبالِ بضربهم.. وكأنه -وأخيرًا- قد وجد ضالته، ثم جهر بها ثانية في اليوم التالي، فأوقعوا به الضرب مرة أخرى..
وعن صدقه -رضي الله عنه- وزهده فقد قال رسول الله ﷺ: “أيُّكم يَلْقاني على الحالِ الذي أُفارِقُه عليه؟ فقال أبو ذَرٍّ: أنا. فقال له النَّبيُّ ﷺ: ما أظَلَّتِ الخَضراءُ، ولا أقَلَّتِ الغَبراءُ على ذي لَهجةٍ أصدَقَ مِن أبي ذَرٍّ! مَن سَرَّه أنْ يَنظُرَ إلى زُهدِ عيسى؛ فليَنظُرْ إلى أبي ذَرٍّ” (رجاله ثقات)
فكان زهده هذا مصدر خلافه مع بعض الصحابة؛ لأنه كان يرى ألا يكنز الرجل الذهب والفضة بل ينفقهما في سبيل الله؛ حرصًا منه على العدالة الاجتماعية.. وهذا المبدأ لا تتحمله كل النفوس البشرية، فخاف عثمان -رضي الله عنه- أن يثير أبو ذر الفتنة فعرض عليه أن ينتقل إلى الربذة على أطراف المدينة.. فانتقل -رضي الله عنه- إليها غير مجادل وقد آثر ألا يكون سببًا في فتنة المسلمين.. وفي هذا الموقف دلالة على حرصه على وحدة صف المسلمين.
ومما يدل على ذلك الحرص -أيضًا- أن خصه النبي ﷺ ببعض العلم الذي كان لا يصلح أن يعلمه غيره ولا يطيقه غيره فكتمه حتى مات لئلا يكون سببًا في فتنة المسلمين.. فقال في ذلك علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: أبو ذرٍّ وعَى علمًا، ثم أوكَى عليه، فلم يُخرِج منه شيئًا حتى قُبِض… فدلّ ذلك على أن رسول الله ﷺ أدرك اختلافه فميزه بهذا العلم.
وقد علّمنا -رضي الله عنه- الرضا بما نهاه عنه النبي ﷺ من طلب الإمارة حين قال: يا رسولَ اللهِ ألا تستعملْني -أي في منصبٍ- قال : فضرب بيدِه على منكبي ثم قال : “يا أبا ذرٍّ إنك ضعيفٌ وإنها أمانةٌ و إنها يومَ القيامةِ خزيٌّ و ندامةٌ إلا من أخذها بحقِّها وأدَّى الذي عليه فيها” (صحيح مسلم).. فتقبل النصيحة بصدر رحب.
فضعفه -رضي الله عنه- هذا لم يكن ضعفًا جسديًّا؛ إذ كان عظيم الجسد، ولم يكن ضعفًا عَقَديًّا، إذ كان قويّ العقيدة، وإنما كان ضعفه في الإدارة.. كان ضعفه في استيعاب أنه مختلف عن غيره وأنه لا يشبهه أحد في فكره.. إذ كيف لحاكم لديه من التحمل ما يجعله يطيق ما لا يطيقه غيره وهو معتقد أن غيره مثله.. ثم يحكم الناس فيأمرهم بما لا يطيقون.. حتمًا كان سيفشل في توحيد صف المسلمين..والله أعلم..
ويوم غزوة تبوك تمهّل على بعيره حتى تأخر عن المسلمين.. فلما أبطأ عليه البعير أخَذَ متاعه فجعله على ظهره، ثم خرج يَتْبَع رسول اللَّه ﷺ ماشيًا، ونظر ناظر من المسلمين فقال: إن هذا الرجل يمشي على الطريق، فقال رسول اللَّه ﷺ: “كن أبا ذر” فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول اللَّه، هو واللَّه أبو ذر. فقال رسول اللَّه ﷺ: “يرحم اللَّه أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويحشر وحده” (حسّنه الألباني)
وعندما حضره الموت -رضي الله عنه- تحقق فيه حديث النبي ﷺ فجاءه الموت وهو وحده في صحراء الربذة، وما معه غير زوجته وليس عندها ما يكفي لكفنه.. حتى مرّ به نفر من المؤمنين ومعهم عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- فقال لهم أبو ذر: لا يكفنني رجل كان أميرًا أو عريفًا أو بريدًا فكفنه بعد موته فتى من الأنصار وصلوا عليه..
فكان أبو ذر -رضي الله عنه- بعقله المختلف وفكره المتفرد… مستقلًّا واثقًا لا يبالي أن كان وحيدًا في دربه، عاش على هذا المبدأ ومات عليه وسيبعث عليه، إن شاء الله.
فسيرة هذا الصحابي الجليل هي رسالة لكل مَن يشعر أنه مختلف عن غيره مفادها أن اختلافك عن غيرك لا يُعيبك ما دمت على طريق الحق.. فربما كان اختلافك هو سر تميّزك.