
المسرحيان الأخوان مَلص.. يَنبشان في البُنى النفسية السورية مجدداً
سامر خالد منصور / سورية
المسرحيان الشابان ” أحمد ومحمد ” الشهيران بالأخوين مَلص رمزان من رموز النضال عَبر الفن ضد الاستبداد ، عادا من فرنسا ليقدما مسرحية ” كل عام وأنتم بخير ” من بطولتهما وتأليفهما وإخراجهما ، وهي مستوحاة من مسرحية ” كل عار وأنتم بخير ” التي قدَّماها منذ أعوامٍ طِوال ، وأما الشخصيتان فهما شخصيتا مسرحية ” كل عار وأنتم بخير ” ذاتهما . المسرحية توليفة موفَّقة من فئة التراجيكوميديا.
يقول الأخوين مَلص أنهما ابتكرا ما يُعرف بمسرح الغرفة وقد انتشرت أعمالهما عبر يوتيوب قُبيل الثورة السورية ، والهدف من هذا الابتكار نشر فن المسرح رغماً عن الرقابة والمسؤولين البعثيين الذين يحتكرون القرار فيما يخص قاعات المسارح وكل المسائل اللوجستية والبنية التحتية القادرة على إقامة عرض مسرحي .
العرض يقوم على نموذجين من الشخصيات:
الشاب العسكري:
شاب عامي بسيط من السُنّة ، يَعيش أوهام البطولة في مؤسسة عسكرية كلاسيكية من الطراز السوفيتي ، و برغم أن حياته تعاني من ” الستاتيك ” وكونه لا يستطيع الزواج من الفتاة التي يُحبُّها بسبب ظروف الحياة العسكرية وفقره ، ينظر إلى نفسه كفاعل ومُحرّك وبطل ، ولا يقبل فكرة أن النظام الاستبدادي يستعمله ويستأثر بزهرة شبابه دون أن يُقدم له شيئاً في المُقابل إلا شعارات كاذبة ، إلا أن حاجة الإنسان للشعور بالمعنى وتفعيل آلية من آليات دفاع النفس البشريّة ألا وهي ” الانكار ” يجعله مُتماهياً إلى حَدٍّ بعيد مع تلك الشعارات الجوفاء ، مُصدقاً إلى حَدٍّ ما أنه بطل وأنه يخدم قضية وطنية و يتخلل حديثه عن الرمزية التي تُسبغها عليه المؤسسة العسكرية عبارات تُفيد باستلابه و مُعاملته باحتقار من قِبل أصحاب الرُتب العسكرية وهنا مفارقة موغلة في واقع العسكري السوري في حِقبة النظام البائد .
هذا العسكري طيب لكنه شرير أيضاً بنسبة ما ، لعدم امتلاكه الوعي لرؤية الحدود الفاصلة بين الخير والشَر وإزالة الغشاوة الأيديولوجية عن عينيه ، و التمييز بين الحدود الفاصل بين مسائل كثيرة ، منها كونه أداة وكونه يمتلك رمزية وطنية على سبيل المثال .
من النقاط اللافتة في شخصية العسكري الذات الرجولية الاستعراضية المُنتفخة والاعتداد بالذات الجوفاء بحيث يُبادر بالتصعيد والعنف تجاه أي شيء يمس كرامته ، و لكنه في واقع الأمر مُتكيّف ومُتآلف مع الذل ومشكلته ليست أن يتم إذلاله وإنما من يُذلّه ، فإن كان ضابطاً لا بأس ، يتحول إلى مازوشي مع ذلك الضابط السادي .
إن التناقضات التي عرّتها المسرحية في شخصية الريفي العامي العسكري في حقبة الأسدين مذهلة في كمِّها و طريقة عرضها ، ففي ذات الوقت الذي يصف نفسه بالبطل الحامي للشعب ، يُحذر صديقه المُثقف المُعارض من بطش وإجرام السلطة وأنهم سيغتصبون حبيبته أمامه ويضعونه في منفردة مظلمة ليعيش عقوداً على تلك الذكرى !
الرجل المثقف :
شخصية مُهمَّشة مُتحفِّظة تشعر بالخذلان والخيبة خاصة وأنها تتمنى الأفضل لإنسان الأرض.
تتمحور المسرحية حول العلاقة بين الشخصيتين ، العسكري الذي يُمثّل عالم الحس واللامعنى ، وهو صاخب حيوي يُداري عقدة نقص شبه منسية داخله بكثرة ، يداريها عَبرَ الحركة وطبقات الصوت الواثقة ، ولعل فرط الحركة والنشاط والصخب كي يشعر بوجوده ، أي كردة فعل على شيء في اللاشعور لديه يخبره أنه مُهمّش ومُستلب ، وقد نجح الممثل محمد ملص بتَجليتها على هذا النحو وأوصل حقيقتها كجعجعة بلا طحن ، ومن جهة أخرى هناك الرجل المُثقف الذي يُمثل ” المعنى ” غير الفاعل بسبب التهميش .
وخلال التقدم في السياق الدرامي نرى العامي الشاب الذي يُمثل ” طاقة الحياة ” و المثقف يُمثل في معظم الأحيان ” العبث واللاجدوى ” وفي أحيانٍ أخرى هدوء المثقف و ثوراته فكرياً و لغوياً كل حين .
وكلاهما غير فاعل في هذا المجتمع غير المتوازن ، وحضورهما المُختل سببه الغائب عن المُشاهد هو الشخصيات القمعيّة المُستَلِبة لهما .
الشر والخير :
لم يكن الصراع بين الشخصيتين صراعاً بين الشر والخير ، فالعسكري طيب لكنه شرير بنسبة ما ، أي أنه شخصية مُركّبة وقد نحج الأخوين مَلص في تحدي إظهار تعقيدات الشخصية التي تُعبِّر عن نمط سطحي و أجوف ، وهذا ليس بالأمر السهل حيث عليهما أن يُظهرا للمشاهد شخصية سطحيّة ويأخذانه في أعماقها البعيدة في آنٍ معاً ، وهذا أشبه بأن تُغرق المشاهد في شبر ماء وكأنه أمام بئر مسحورة .
الوشائج بين الأفراد مدرسة تجعلك خبيراً في فهم العمق النفسي لأقرب الناس إليك :
كسر أفق التوقع عندما فاجأنا العسكري البسيط أنه عندما تم استفزازه جداً و وصل إلى قمة التهديد بالعنف ، انقلب من قاضي إلى معالج ..
بفطريته التقط أثر الفراغ العاطفي على صديقه المثقف الشاعر ، وكأنه قد قرأ فرويد ، وتحوّل بشكل عجيب من ” بطل عَبر السلاح ” إلى بطل من نوع آخر يريد جعل صديقه يُصلح ما لم يجرؤ على إصلاحه خلال أعوامٍ طِوال وجعله يتصل بمحبوبته السابقة ويحل خلافاته معها لإنهاء فراغه العاطفي وتحقيق توازنه النفسي وعندما ينجح في ذلك يقول له ” شفت أنا بطل خليتك بدقائق تعمل شي كنت عاجز ع مدى سنين إنك تساويه ” .
توظيف أخطاء العوام بطريقة كوميدية مُوفَّقة :
من التفاصيل اللافتة حول سيكولوجيا العوام ، تركيز العوام على القائل وليس على المقولة التي يسمعونها نتيجة لنقص الموضوعية لدى هذه الكائنات ، مثال ذلك عندما تابع العامي العسكري السخرية و الضحك كعادته مما يقوله له صديقه المثقف الشاعر من مقولات و أبيات شعريّة يستشهد بها لتدعيم ما يطرحه من أفكار ، ليُفاجِئ المُثقف صديقهُ العسكري أن ما سمعه لم يكن شاهداً شِعريَّاً بل آية قرآنية ، ينقلب موقف العامي مباشرةً تجاه ما يسمع ، وهنا إشارة إلى عدم وجود استماع حقيقي بهدف التعلّم لدى العامة المعروفين بثقافة ” النقل وليس العقل ” و المُعتادين على لغو الكلام وتمييع كل شيء كي يعيشوا حياتهم اللامسؤولة والتي تُختزل بالتكاثر والطعام و التهريج ومسائل أُخرى بالكاد تتمايز عما تمارسه بقيّة الحيوانات.
النهاية :
ظلَّ العسكري حتى آخر أيامه يعيش في قفص الأيديولوجيا ” الشعارات ” و وهم البطولة مُتبنيّاً المعنى المزعوم المُسبغ عليه نتيجة ضحالة ذاته العاجزة عن توليد معنى لحياته ، وقد صار باهت الحضور ميت الروح بعد زوال حيويته وشبابه . وقد اتخذ لنفسه صديقاً شاباً شاعراً ليعوِّضه عن صديقه القديم الذي فارق الحياة ، و لكنه ظلَّ مُتخندِقاً في قوالب تفكيره فعاش ذات الصراع مع صديقه الشاب تقريباً .
الفشل العاطفي وفهم الآخر و وحدة الحال برغم التباين بين الشخصيتين ، تكرّس هذا في الخاتمة التي اتفق فيها كلاهما على الانتحار ، ثم قرر كلٌّ منهما مساعدة الآخر بحيث يقتل كلٌّ منهما صديقه ، لكن هواتف الجيران رصدت تحضيراتهما للموت ، في إشارة ربما من جُملة إشارات إلى ” أن العين في المجتمع السوري على العسكريين السُذج والنُخب ” .
في المُحصِّلة تُعتبر مسرحية ” كل عام وأنتم بخير ” من أبلغ التجسيدات الفنيّة لأبرز نمطين من المُهمشين في حقبة الأسدين ولإشكاليتهما النفسية و الاجتماعية والذهنيّة ، وإن سياق التقاء هذين النمطين في صداقة قوية هو بالفعل صيد درامي ثمين كما رأياه واستثمراه الأخوان مَلص .
المسرحيان الأخوان مَلص.. يَنبشان في البُنى النفسية السورية مجدداً