نسيم الماضي
أيمن فوزي
نسيم الماضي
يصل اخيراً الي موقف السيارات من سفره الطويل ليستقل “الميكروباص” إلى قريته التي تبعد ما لا يزيد عن خمسة عشر كيلو متراً، فما إن يهم بالركوب حتي يجد يداً سبعينية تمتد إليه في وجه نال منه الدهر ما نال وهو يرحب به فيسلم عليه بابتسامة كأنها إنعكاس المرآة لإبتسامة هذا الرجل العجوز ولكنه من الوهلة الأولى يدرك أنه لا يعرفه ولم يجمعهما موقف زلو بالصدفة من قبل، لكنه يقابل يده فيسلم عليه هو الآخر بحرارة المعرفة والقربى.
يجلس في الكرسي الأمامي غير أنه من الفضول ليترك أذنه بالخلف يتسمع لما يقص هذا الرجل على راكب بجواره، فيقص عليه تفاصيل كل شيء بإيم البلدة و الأسماء والتفاصيل الدقيقة لكل موقف كلما مر على قرية من قري خط المنصورة دكرنس.
فقد الكثير من العقل بمر الزمن ولكنه مازال لم يفقد ذاكرة الأشياء و الأسعار والمواقف بكل دقة، فيقصها وكأنك تعيشها رغم إقتضاب الكلمات التي يقولها وعدم ترتيبها المنطقي ولكنها روح الحكاية النابضة في سرده الممتع وهو مازال يطلق على نفسه الولد وكأنها حكايات منذ طفولته.
كلام منطقي وصفات طبية من بيئة مصرية ريفية خالصة مرة من “ابوه الحاج فلان”و تتردد سيرة أمه في كل حكاياته و نصائحها وكلما مررنا بقرية ينتقل بسلاسة مشوقة عن الحديث عن فلان أو ذكريات له بها في دقة ووصف مبهر.
الجميع يتجاوبون معه ويستمعون له وهم يومئون بما يقول وكأنهم اعجبهم هذا العبق من الماضي وإن كان بهذا الشكل من الهذيان فيستطرد بلا توقف طول الطريق يستخدم لغته البسيطة الجميلة يتبع الحكاية بالأخرى ويخلط بين حكاياته أو يكررها في بعض الأحيان، إلا أننا لكم سمعنا هذه الحكايات من قبل من أجدادنا مراراً وتكراراً.
ينادي احد الركاب في الخلف “الحاج هينزل الكوبري الجاي” وهو نفسه لا يتنبه لكلماته وهو مازال يقص حكاياته من كل صوب وكأنها نسيم من الماضي يهف على هذا القلب المشتاق.
تتوقف العربة فينبهه الراكب بجواره “وصلنا لكوريا بلادكم يا حاج” وهو مستمر في حكاياته، فإذا بالسائق يستعجله للنزول فينزل ومازال يتمتم ببعض الكلمات التي لا تسمع غيره وكأنه لم يكن يسمع إلا نفسه من البداية، رجل لم يصبه الدهر بإنحناءة الظهر، نظيف اللباس، ذو همة في مشيته رغم سنه، ممسكاً في يديه حقيبتين من البلاستك يبدو أنهما بعض الملابس من ماركات مشهورة، يمسكنا بطريقة من تعود على التبضع من هذه الأماكن.
ومازلت ارمقه حتى يبتلعه الطريق وسط الحشود حتى تلقي المسافات ستائر الغياب فما غاب عني رسمه.
أيمن فوزي