هنا نابل | بقلم المعز غني
حين يصير العِزُّ قَدَرًا … ويغدو الصبرُ طريقًا إلى الخلود
في زمنٍ تتبدّل فيه الموازين وتختلط القيم كما تختلط الغيوم في سماءٍ مثقلة ، يعود الشعر العظيم ليكون بوصلة الروح ، ويعود المتنبي ليهمس في أذن التاريخ : أحذروا أن تساوموا الكرامة، فإنها إذا بيعت مرّة ، لم تُشترَ بعدها أبداً .
“لا تسقني ماء الحياة بذلّة” ،
ليست بيت شعرٍ وحسب ، بل ميثاق شرفٍ مكتوب بحبر الكبرياء ، يوقّعه الأحرار كلّ صباح دون أن يدروا ، حين يختارون الوقوف ولو تحت المطر ، على أن ينحنوا تحت سقفٍ واطئ .
الحنظل في عرف المتنبي ليس مرارة النبات ، بل مرارة الطريق النبيل … طريق من يرضى أن يتجرّع الألم واقفاً ، وأن يبتلع الخسارات وهو يحمل رأسه عالياً.
فليس كلّ حيٍّ حيّاً ، وليس كلُّ ماءٍ حياة ، قد يُحييك ماءٌ ، لكنه يميت أسمك فيك ، وقد يُفنيك حنظل ، لكنه يُخلّدك في الذاكرة .
“أمّا “ماء الحياة بذلّة كجهنّ
، فهي قسوة العبارة لتنعيم الحقيقة .
نعم ، الذلّ نارٌ باردة تُحرق دون لهيب ، وتترك في الروح ندوباً لا تمحوها أمطار الأعذار.
وجهنّم بالعزّ أطيب منزل؟ لأنّ العزّ حين يسكنك ، يصير الجحيم أليفاً ؛ تتبدّل فيه حرارة النار إلى دفء كرامة ، ويتحوّل العذاب إلى معنى .
وحين قال المتنبي
” وإذا كانت النفوس كباراً “
تعبت في مرادها الأجسامُ
لم يكن يمجّد الألم ، بل يمجّد الهدف .
فالأجساد تتعب حين تتقدّم خلف أرواحٍ عارفة بعلوّ سقفها.
التعب هنا ضريبة القمم ، والعرق توقيع المجد ، والإنهاك شهادة حضور في معركةٍ إسمها الحياة .
الكبار لا يطلبون المستحيل ، بل يرفضون الممكن حين يكون مهيناً ، يقايضون الراحة بالخلود ، والسلامة بالسموّ ، والنجاة السهلة بنجاةٍ تشبههم.
هم أبناء التعب الجميل ، صُنّاع الحلم الثقيل ، الذين يعرفون أنّ الطريق إلى الذات يمرّ عبر شوك الإختبار .
وفي عالمٍ يُكافئ الانحناء بسرعة ، ويُطيل إنتظار الوقوف ، يظلّ الشعر العظيم عصاً نتوكّأ عليها لنكمل المشي.
المتنبي لم يمت ، لأنّ الكلمات التي تُنقذ كرامة الإنسان لا تموت . كلّما خبا وجه الحق ، أضاءه بيت شعر ، وكلّما ضاع صوت الأحرار، ناداه شاعر.
فأختر لنفسك أيها الإنسان …
أختر ماءً يروي جسدك ويُميت روحك؟
أم حنظلاً يُتعب فمك ويُوقظ اسمك؟
أخترجهنّم الذلّ الملساء …
أم جهنّم العزّ المضيئة؟
إنها ليست مفاضلةً بين ألمٍ وألم ، بل بين معنى ومعنى .
وأنت يا قاريء كلماتي هذه … في النهاية ، ما تصنعه باختيارك ، هو ما يصنعك .
بقلم المعز غني عاشق الترحال وروح الاكتشاف

