الحضارة والاحتكام إلى العقل
الحضارة والاحتكام إلى العقل
بقلم / محمـــد الدكـــروري
إنه إذا قارنا بين عدة حضارات متمايزة فإننا نجد أن القاسم المشترك الذي نراه في نماذجها هو الاحتكام إلى العقل في قبول ما يقبله الناس، وفي رفض ما يرفضونه، وهذا الاحتكام إلى مقاييس العقل وحده قد يتبدى في صور تختلف باختلاف العصور، ومن ثَم نجد أن الاحتكام إلى العقل هو الأساس الذي تقام عليه الحضارات حينما قامت، وبغيابه تؤول إلى الانحدار، ولا يعني الاحتكام إلى العقل فصل الإيمان بالله عنه، فإذا كان هذا الإيمان تذوقا وإحساسا قلبيّا ووجدانيا فإنه يندمج بالفكر أو العقل ولا ينفصل عنه ولذلك تمايزت حضارات عن غيرها لارتكازها على قواعد إيمانية تغلغلت في طرائق وتفكير أهل هذه الحضارات.
وتعتبر الحضارة غاية أي اجتماع بشري مستقر، وانهيار الحضارة هو نهاية وجود المجتمع البشري واستقراره، وإن أي مجتمع بدون حضارة سيكون مجتمعا بدائيا، فالحضارة تضع حاجزا بين الإنسان وهمجيته فتحميه، وأما عن عوامل ظهور الحضارة فيرى بعض الفلاسفة والباحثين بتعددها، ويرى بعضهم الآخر أن الحضارة تقوم على عامل واحد فقط، فمنهم من يرجع قيام الحضارة إلى طبيعة الجنس، أو إلى الظروف البيئية المحيطة، أو إلى الأحوال الاقتصادية، أو إلى جوهر الإنسان وإرادته وعزيمته، أو إلى دور القيم الاجتماعية في المجتمع والتي وضعت لتناسب حضارة قوية ومتينة، أو إلى قوة المجتمع بحد ذاته.
حيث رأى بعض الفلاسفة أن قيام الحضارة بسبب أحد هذه العوامل أو بسبب عاملين أو أكثر مجتمعين مع بعضهم البعض، وإن عوامل قيام الحضارات في الرؤية الغربية قيل بسبب عاملين فقط، وهما الطبيعة والإنسان، وكان نتيجة تركيز نظرتها في قيام الحضارات على الذات الإنسانية والطبيعة أن يعتبر الجنس أو العرق العامل الأساسي في نشوء الحضارة، واختصت بذلك الجنس الأبيض لما يتمتع به من خواص أهلته لصنع الحضارة، وأما دخول الطبيعة كعامل مهم في نشأة الحضارة فيكمن في نشوء صراع بين الطبيعة والإنسان ليتحدى الإنسان نفسه وتتفجر طاقاته ليبني حضارة مزدهرة، إلا أن هذا الصراع أدى مع مرور الأيام.
إلى إحداث الفساد في العمران، والجدير بالذكر أن فكرة الصراع بين الإنسان والطبيعة من حوله هي فكرة غربية بحتة تبدو للوهلة الأولى منطقية إلا أنه عند التوغل فيها نجد أنها فكرة مدحوضة، حيث إن الطبيعة وجدت لخدمة الإنسان وعليه فإن فكرة الصراع بينهما مرفوضة، فالعلاقة بينهما علاقة تكامل وانسجام، وفي عصرنا الحالي نجد أن الحضارة المعاصرة عملت على إفساد البيئة الكونية، وذلك لأن العلاقة قد تأسست منذ البداية على فكرة الصراع، دون وجود للقيم الأخلاقية، مما أدى إلى ظهور العديد من المشكلات مثل استنفاذ الموارد ومصادر الطاقة المخزونة، بالإضافة إلى تراكم النفايات بشكل كبير.
واستخدام أسلحة الدمار الشامل التي أدت إلى إهلاك النسل، وكل تلك الأمور سببها السلوك الإنساني الفاسد، وقد تم استبعاد البعد الغيبي في عوامل قيام الحضارة في الرؤية الغربية، حيث تعاملت الحضارة الغربية مع عالم الشهادة، واقتصر علمها على المفاهيم الوضعية التي تقوم على الصراع. كما أن النظريات الغربية عمدت إلى تعظيم دور الإنسان وجعله مركزا للكون، بالإضافة إلى تضخيم دور الطبيعة أيضا، وقد سعت الحضارة الغربية إلى تحقيق المنفعة للإنسان وإشباع غرائزه مع إهمال الجانب الروحي، الأمر الذي أدى إلى التهديد بالخطر.