الدكروري يكتب عن السياق الحضاري الإسلامي
الدكروري يكتب عن السياق الحضاري الإسلامي
بقلم / محمـــد الدكـــروري
إذا كان للعلم ضوابطه وقواعده المنهجية فإن هذه الضوابط في نفس الوقت يحيط بها وتحرسها المعايير الأخلاقية، وتتبنى الدراسة الراهنة قضية مؤداها أن أي منهجية لبناء الصرح العلمي للأمة العربية الإسلامية لا بد أن تنتمي بالضرورة للسياق الحضاري الإسلامي الذي أثمر في عهود الإسلام الأولى تراثا علميّا رصينا استرشد به العلم في وضعه الحديث، فالصلاة مثلا ليست حركات ليست قياما وقعودا, والزكاة ليست مالا مطروحا تبرئة للذمة, وليس الصيام جوعا وعطشا فقط, فما اختلافه عن الحمية, والحج إن لم تدرك معانيه وتلتقط إشاراته فما اختلافه عن سياحة بين مدينة وأخرى، وهكذا سائر العبادات، وإن مراقبة النفس ومحاسبتها.
هو السبيل إلى الارتقاء إلى هذه العوالم فقال تعالى فى سورة التازعات ” وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هى المأوى” فينبغي أن يعم مبدأ المحاسبة وينتشر, فيحاسب طالب العلم نفسه، ماذا أريد بطلبي العلم؟ ويحاسب التاجر نفسه، ماذا أريد بتجارتى؟ وكذا كل مسؤول في كل مكان وعلى كل مستوى, ويحاسب كل فرد نفسه فى كل يوم في كل لحظة ماذا قدمت لدينى ولأمتى ولآخرتى؟ وبفضل ذلك تخرج الأمة من الفقر الحسى والفكرى, والحفظ البغبغائى, والشكلية إلى الفكر العلمى الحق, ومن تزكية أنواع الرذائل باسم الفن إلى الذوق الحقيقى والحس المرهف والجمال الحق، ومن الإدمان المجهول نسبا ونشأة إلى الشعور النابع من الدين والتاريخ.
ومن أقفال الأفكار المتنوعة القابعة في صدورنا والتي أضنتنا وأنهكتنا, إلى حرية الخدمة لله تعالى طاعة وتسليما وشعورا وصدق توجه، فإننا لن نقدر أن نفتح صفحة جديدة في عوالم المجد من غير انتزاع التصورات والأفكار المنحرفة التى استقرت فينا, وفي أوطاننا منذ سنين وسنين, فلقد تعرضت حياتنا الروحية ولا تزال لهجمات متتالية كادت تعطلها, ولذلك صور كثيرة منها انحباس المثقفين والمفكرين في قمقم المادية الوضعية, وحل في نقاشاتنا التشدق على الصلابة والثبات في الحق, وصار أغلب الهم الانتصار للذات وتخطئة الآخر، وحتى في طلب العلم دخلت مسألة خطيرة، وهي حب المحمدة والثناء وصرف الأنظار وتصدر المجالس إلا من رحم الله عز وجل.
وحتى في طلبنا للآخرة ظهرت توجهات وحلت تصورات, صرفت الناس عن وسائل التوجه الحقيقي التي توائم بين السعادة الدنيوية والآخروى، فإن هناك لوثات إذا أصابت الروح أنهكتها أو شلتها, مثل الحرص والكسل والطمع وطلب الشهرة, وسلطة الشهوة وشهوة السلطة والأنانية, والميل إلى الدنيا, وبالمقابل هناك أمور تقوى الروح وتكسبها المناعة، كالاستغناء والجسارة, ونكران الذات, والاهتمام بالآخرين, وجماع ذلك كله محاسبة النفس على الدوام، فإن من نتائج عدم محاسبة النفس ضياع الأمانة بجميع مفاهيمها, ومن صور ضياعها إسناد الأمر لغير أهله, ومعالجة الداء بغير مصله، وهذه الصورة تنتج عنها صور من الارتباك تخلف ارتجاجا في الفهم والتصور.
مما يكون سببا في إصدار قرارات معلولة غير ولودة, وعاجزة بديهة عن الإعداد للمرحلة المضيئة المأمولة, ولئن أعدت لشيء فإنما تعد للتصارع بين الحشود الغارقة في شباك الحرص والتخاصم بين الأحزاب والعراك بين الشعوب, بل وظهور جماعات مختلة تنطق باسم الدين وهي في الحقيقة تحارب الدين, كما هو حاصل في دنيانا اليوم من قتل وذبح وترويع باسم الدين والدين من ذلك براء، وطغمة من المفسدين الفاسدين, يستبيحون الدماء ويقتلون الرجال والأطفال والنساء, في صورة من صور الهمجية والتخلف.