قصة

الدنيا

جريده موطني

**” الدنيا”**

بقلم الأديب المصرى

د. طارق رضوان جمعة

الدنيا

إِنّـي تَـعِبتُ.. مِـنَ الـرَّحيلِ إِلـيْكِ

وَتعِبتُ مِنْ صَبري الطويلِ عَليْكِ

لأنـالَ شَـيئاً مِـنْ وِصـالِكِ فَـانْعِمي

أنـتِ الـكَريمةُ.. والـوِصالُ لَـدَيْكِ

أو خَـلّصيني مِـنْ هَـوائلِ رِحلَتي…. (رحلة إليك – طارق علي الصيرفي)

 

الدنيا من الدناءة أم من الدنو؟

ذكر أهل العلم أن الدنيا مشتقة من الدنو وهو القرب، أو من الدناءة وهي الخسة، ويشهد لاشتقاقها من الدنو بمعنى القرب قول الله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ {الصافات:6}، يعني السماء القريبة، وحمل على هذا المعنى أيضاً قول الله تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى {الأعراف:169}، وقد ذكر هذا المعنى القرطبي والغزالي وابن منظور.

والله ليت ادرى بأي قلم سأكتب، بأي إحساس سأهمس، بأي حرف سأبدأ، فأنا لا أعلم، إلى متى هي الدنيا هكذا؟ أرهقني التفكر بحالي، أنكر جرحي وآلامي، وعلى نفسي أتآمر، تعبت أشكي، هب لى يا الله في هذه الدنيا للصدق معنى وعنوان:

أُطيل الصمت لا للصمت أعشقه… ولكن فيه دنيا غير دُنيانا.

نداء من وراء الكون أسمعه … فيبعث في حطام النفس إنسانا

كتب طه حسين عن فلسفة أبو العلاء المعرى ، وكان شاعرا سوريا رائعا، وهو الذى نال اهتمام المستشرقين، فقد ترجمت اللزوميات مثلا إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والروسية وغيرها . دُعِىَ إلى بغداد عاصمة الخلافة العباسية بعد محنته من أمير حلب بسبب آرائه حول الدين والتشكيك بما يظن من حقائق، فرحل إلى بغداد … كانت بغداد كعبة العلم والأدب. وكانت بغداد مقصد صيادي الثروات من المرتزقين بالشعر عند ابواب الخلفاء والامراء ولكن المعري كان عف النفس زاهدا لم يرتزق بشعره، ولقد رد شعرا على من غمزه بمظنة السؤال قائلا: أنبئكم أني على العهد سالم … ووجهي لما يبتذل.

 

من أهم ما صنفه تلك الفترة هى اللزوميات وسقط الزند ورسالة الغفران وباتت حكمه الكثيرة مضربا للأمثال منها: ألّف فى بغداد (سقط الزند) لأكثر من ثلاثة آلاف بيت شعر، نالته شهرة كبيرة وفيها الغزل والوصف والزهد والفلسفة والحكمة والأديان:

ولما رأيت الجهل فى الناس فاشيا تجاهلت حتى ظن أنى جاهل

فوا عجبا كم يدعى الفضل ناقص ووا أسفا كم يظهر النقص فاضل.

 

نازع المعرى ادباء بغداد شرف البلاغة وينتزع منهم وهو الاعمى الاعتراف بقدراته التي تفوق قدرات المبصرين.

كما ظهرت اتجاهات الزهد والتصوف والحكمة في أبيات أبا نواس الذى لم يفقد الأمل من عفو ربّه، فهو مقرّ بذنوبه معترف بخطاياه، وأنّ الله جدير بالغفران، وها هو يوجّه عيناه إلى السماء، ومن غير الله يستجير به المستجير:

أيا من ليس لي منه مُجيرُ بعفوك من عذابك أستجير.

فإن عذبتني فبسوء فعلي وإن تغفر، فأنت به جدير.

 

ونتبين في كثير من شعر إيليا أبو ماضي، تأملات وتساؤلات حول الحياة والموت.. وما بعد الموت، فهو يبدأ قصيدته «الطلاسم» بالإقرار بأنّ مجيئه إلى هذه الحياة سرٌ لا يعرف له جواباً، وكلّ خطوة خطاها كانت مقدرة عليه ليس له فيها أي خيار، ويتساءل: أهذا المقدَّر كتب عليه منذ الأزل، أم أنه وليد ساعته وتنتهي هذه التساؤلات بإجابة واحدة «لست أدري».

 

وها هى الدنيا في عيون نزار قباني الذي قُتلت زوجته، بينما هي في السفارة العراقية في بيروت، خلال أحداث الحرب الأهلية. وقال في رثائها:

«بلقيس/ يا عطراً بذاكرتي/ ويا قبراً يسافر في الغمام/ قتلوك في بيروت، مثل أي غزالة/ من بعدها.. قتلوا الكلام».

 

ولعل من أجمل ما قيل في عصرنا الحديث: رثاء الشاعر أحمد شوقي لأبيه، وهو رثاء صادر عن فجيعة موجعة على فراق الأب الحاني الذي كانت عواطفه تغمر ابنه والانسجام يسود بينهما:

أنا مَنء مات ومَنء مات أنا لقي الموت كلانا مرتين

نحن كنا مهجة في بدن ثم صرنا مهجة في بدنين.

ثم عُدنا مهجة في بدن ثم نُلقى جثة في كفنين.

ما أبي إلاّ أخ فارقته وُدّه الصدق وودّ الناس مَيءن

 

عبارات محدودة عفوية في اطارها، مؤثرة في معانيها تُبرز رابطة الأب بالابن وارتباط الابن بالأب في تلاحم أسري تجعلنا نشعر من خلال ذلك الرثاء بأنه نابع من القلب متعمق في الوجدان، فيه نبض صادق بالمودة وتمازج في العواطف.. والرثاء تعبير عن شفافية انسانية وتصوير لمشاعر ذاتية، وأداء معبر عن شحنة الألم وصورة ناطقة عن اتساع مساحة الفراق وتباعد الأحباب بشكل حتمي لا يُرجى معه عودة غائب ولا لقاء راحل، ولا يبقى بعد ذلك سوى اختزان ذكريات حزينة تكاد لا تمحوها الأعوام.

 

ما الدنيا إلا مساحة من الحزن حين تبسط ظلالها الكثيفة على أرواحنا، حينها ننسج من هذه الكثافة المعتمة صورة حزينة لقلب جريح. ولننظر لشاعر شديد الحساسية مثل ابن الرومي ، فهذا الشاعر الموهوب يصوّر بالكلمة ما لا تستطيع تصويره الآلة المصوّرة، ويجسد الواقعة بكل أبعادها الحسية والمعنوية ومن جميع جنباتها في أبيات ملتاعة، ولذلك نجده عند وفاة محمد أوسط أبنائه في سنّ مبكرة جاشت أحاسيسه بالأحزان فاستنفرت شاعريته الخصبة فترجم مشاعره الأبوية في قصيدة تنزف أبياتها بالدمع.الدنيا

اكمل القراءة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار