علم من أعلام التصوف العارف بالله ( أبو الحسن الشاذلي)
إعداد/ د. محمد احمد غالى
أبو الحسن الشاذلي هو أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي، الزاهد، الصوفي، المغربي، تنتسب إليه الطريقة الشاذلية. ولد بالمغرب فى عام ٥٧١هـ بقبيلة الأخماس الغمارية في قرية قريبة من سبته تسمّى غمارة. تتلمذ أبو الحسن الشاذلي عند نشأته على يد الإمام عبد السلام بن مشيش بالمغرب، وكان له كل الأثر في حياته الصوفية والعلمية. ثم ارتحل إلى بلدة قريبة من تونس تسمى شاذلة، ومنذ ذلك الحين عُرف بالشاذلي. رحل أبو الحسن الشاذلي بعد ذلك إلى تونس، ودرس بها على يد أبو سعيد الباجي، واعتكف للعبادة فى جبل زغوان، وهناك ارتقى منازل عالية كما في الفكر الصوفي. تعرّض فى تونس لافتراءات أظهر الله تعالى بهتانها، فترك تونس وذهب لأداء فريضة الحج، ثم تنقل بعدها ما بين المغرب الإسلامي والمشرق ثم دخل مصر التي استقبله علماؤها وأهلها بما يستحقه من احترام واستعداد للتلقي الروحي والتربوي والمعرفي. وفى مصر أقام بالإسكندرية، حيث تزوج وأنجب أولاده شهاب الدين أحمد وأبو الحسن علي، وأبو عبد الله محمد وابنته زينب، وفي الإسكندرية أصبح له أتباع ومريدون، وانتشرت طريقته في مصر، وانتشر صيته على أنه من أقطاب الصوفية في العالم أجمع. كان أبو الحسن الشاذلي رحمه الله حسني النَسَب، مغربي المولد،طويل القامة، نحيف الجسم، آدم اللون، يأكل الطيب من الطعام، ويشرب البارد من الماء، ويلبس الفاخر من الثياب، ويركب الفارِه المليح من الدواب. وكان أيضا فصيح اللسان، يجيد الحديث ويحسن البيان، مُلْهَم العبارة، شهد له كبراء زمانه بأن الله تعالى انتخبه للولاية، رضي الله عنه وأرضاه. كان الشاذلي رحمه الله حسن المظهر يحب إظهار نعمة ربه عليه بحسن المظهر والملبس، يحج كل عام إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة. وكان ذو علمٍ واسع بالعلوم المختلفة، فقد كان على دراية واسعة وبارعا فى علوم اللغة، والنحو، والتصريف، وأصول الفقه، وعلوم الحديث، والتفسير. تزين رضي الله عنه
بالتواضع، والمظهر الحسن، والزهد، وعلو الهمة، والاعتدال في والمشرب والمأكل والملبس، وفصاحة اللسان.
شهد للعالم الكبير أبي الحسن الشاذلي كبار علماء عصره، من الصوفية ومن خارجها، كان الشيخ الإمام قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة يرى أنه في بركة الشيخ أبي الحسن الشاذلي في مصر، وكان يفتخر بصحبته كما في كتاب المفاخر العلية. وقال الحافظ السيوطي (ت ٩١١ هـ) في حسن المحاضرة عند ذكر من كان بمصر من الصلحاء والزهاد والصوفية ما نصه «الشيخ أبو الحسن الشاذلي شيخ الطائفة الشاذلية هو الشريف تقي الدين علي بن عبد الله عبد الجبار، قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ما رأيت أعرف بالله من الشاذلي». وقال عنه الإمام الذهبي في العبر : “الشاذلي: أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار المغربي، الزاهد، شيخ الطائفة الشاذلية، سكن الإسكندرية وله عبارات في التصوف توهم، ويتكلف له في الاعتذار عنها، وعنه أخذ أبو العباس المرسي، وتوفي الشاذلي بصحراء عيذاب متوجهًا إلى بيت الله الحرام في أوائل ذي القعدة 656هـ”. ولعل الأهم هي شهادة الشيخ الإمام مفتي الأنام عز الدين بن عبد السلام، الذي قال بعدما استمع لكلامه: «اسمعوا هذا الكلام الغريب القريب العهد من الله».
يقول صاحب (درة الأسرار) : «وكان مسكنه رضى الله عنه بالإسكندرية، ببرج من أبراج السور، حبسه السلطان عليه وعلى ذريته، دخلته عام خمسة عشر وسبعمائة، ٥١٧ هـ. في أسفله موجل كبير (حوض واسع يجمع فيه الماء ثم يفجر إلى المزارع وغيرها)، ومرابط للبهائم، وفي الوسط منه مساكن للفقراء وجامع كبير؛ وفي أعلاه أعلية لسكناه ولعياله، وتزوج هناك وولد له أولاد، منهم: الشيخ شهاب الدين أحمد، وأبو الحسن علي، وأبو عبد الله محمد شرف الدين، وقد أدركته بدمنهور قاطنًا بها، ومن البنات: زينب، ولها أولاد رأيت بعضهم، وعريفة الخير». عمل أبو الحسن الشاذلي في الحرث والغرس والحصاد وتربية الماشية والخيول، فظهرت نعمة الله تعالى عليه، وكان الغني الشاكر، وقد مكّنه ذلك من تصحيح بعض المفاهيم التي تتعلق بحقيقة الزهد، وجوهر الفقر، ودعوى اللباس، وغائية المعرفة، وغير ذلك.
«دخل عليه مرة فقير (مريد متصوف)، وعليه لباسٌ (خشن) من شعر. فلما فرغ الشيخ من كلامه، دنا منه (الرجل) وأمسك بملبسه وقال: يا سيدي، ما عُبد الله بمثل هذا اللباس الذي عليك. فأمسك الشيخ ملبسه فوجد فيه خشونة، فقال: ولا عُبد الله بمثل هذا اللباس الذي عليك. لباسي يقول: أنا غني عنكم فلا تعطوني، ولباسك يقول: أنا فقير إليكم فأعطوني». ودخل عليه يوماً تلميذه أبو العباس المرسي، مريداً أكل الخشن ولبس الخشن. فقال له أبو الحسن: «يا أبا العباس: اعرف الله وكن كيف شئت». وضح لنا أبو الحسن الشاذلي أن الزهد ليس مقصورا فقط على الزي واللباس بل في عزوف القلب عما في أيدي الناس. وقد أخذ الشيخ أبو الحسن الشاذلي تلاميذه ومريديه بالمبادئ المثلى في التصوف فهو لم يكن يفهم التصوف كما كان يفهمه بعض معاصريه وبعض المتدروشين حتى اليوم على أنه بطالة تامة بحجة الزهد والتفرغ للعبادة، بل كان يفهمه على أنه صفاء تام في النفس وتقوى خالصة لله وحب لله تعالى وتعلق به وارتفاع بالروح وبالعمل وبالقول عن الدنايا.
من أقوال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه الحكيمة السديدة :
(انتقل من العادة إلى العبادة فالنيات في تصير العادات عبادات ومن العبادة إلى المعبود ومن المعبود إلى الشهود.)
وقال أيضا : (عنوان الطريق الأدب، لا يمكن أن تتعرف على الله إلا من باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن تتعرف على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من باب الأدب مع وارثه، من لا أدب له لا سير له، ما نال من نال إلا بالأدب وما حرم من حرم إلا بترك الأدب، أصعب شيء على النفس الفضيحة.)
وقال أيضا : (الكذاب ثلاثة، كاذب على الله وكاذب على الناس وكاذب على نفسه وأسوءهم الكاذب على نفسه، المحروم من حرم خير الزمان و خير الزمان في رجال الزمان، ليس المحروم من لم يعط، ولكن المحروم من اعطي ولم يأخذ.)
فهذه وصيتي فخذها واعمل بها لأن العلم ينادى بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
قال الإمام أبو الحسن الشاذلي الشعر أيضا، وكان شعرا فصيحا عذبا، مؤثرا على القلب والوجدان وله قصيدة جميله قال فيها :
شربنا كأس من نهوى جهارا
فصرنا بعد رؤيته حيارى***
غمضنا الحال والكيسان تجلى
ظننا أن فى الكيسان نارا***
مشعشعة لها نور عظيم
ولا للقلب عنها اصطبارا***
شربنا نقطة منها فهمنا
فان متنا فلا فى الموت عارا***
فان متنا فلا عار علينا
ولا فى شرعنا للقتل عارا***
فمنا من يموت على وضوء
ومنا من يموت على طهارا***
ومنا من يكن على رأس جبل
ومنا من يكن فى قاع غارا***
من تلاميذ الإمام أبو الحسن رضي الله عنه، الذين ورثوا علمه أحمد أبو العباس المرسي توفي فى عام ٦٨٦ هـ، وذكر له الشعراني (الطبقات الكبرى،ج٢،ص٤) أقوالاً حكيمة كثيرة، ولم يترك كتبًا كشيخه الشاذلي. ومن تلاميذ المرسي ياقوت العرش المُتوفى بالإسكندرية فى عام ٧٠٧هـ، ومن تلاميذ المرسي أيضا ابن عطاء الله السَّكندري المتوفى فى عام ٧٠٧هـ الذي ألَّف عدة كتب منها كتاب عن سيرة أبي العباس المرسي وشيخه القطب الكبير أبي الحسن الشاذلي وأسماه كتاب (لطائف المنن).
وفي عام ٦٥٦هـ في شهر شوال بدأ سفره إلى مكة المكرمة للحج، فلما كان في حميثرة بصحراء عيذاب، وهي بين قنا والقصير، توفاه الله تعالى فى نهاية شهر شوال من العام نفسه، وكان عمره ثلاثة وستون، ٦٣ عاما، ذكر الشيخ ياقوت العرش عن شيخه الشيخ أبى العباس المرسى رضى الله عنهم أن أبا الحسن الشاذلى، كان يحج كل عام فلما كان فى آخر عام خرج فيها قال لخادمه اصطحب فأسا وقفة وحنوطا، فقال له الخادم: ولماذا ياسيدى؟ فقال: فى حميثرا سوف ترى، وحميثرا بصعيد مصر بالقرب من (أسوان) فلما بلغ حميثرا اغتسل الشيخ أبو الحسن الشاذلى وصلى ركعتين وفى آخر سجدة من صلاته انتقل إلى جوار ربه ودفن هناك. وبعد دفنه في المكان الذي توفي فيه، تابع الركب مسيرته لأداء فريضة الحج بقيادة الخليفة الذي اختاره من بعده لأصحابه، وهو أبو العباس المرسي رضي الله عنه. وروي عن أبي العباس المرسي: أن الشيخ أبا الحسن لم يمرض ولكن وعك يومًا وانحرف مزاجه فطلب ماء للوضوء ودخل في الصلاة ثم قبض في السجدة الأخيرة ، وقد أقام حجاج مصر والمغرب أكثر من مائتي عام يتوجهون إلى الحجاز عن طريق عيذاب ثم بطل استعمال هذا الطريق في عام ٧٦٦ هـ، رحم الله الإمام أبو الحسن الشاذلي وأجزل له العطاء، ورضي عنه وأرضاه.
علم من أعلام التصوف العارف بالله ( أبو الحسن الشاذلي)