قصة

المتنبىء

جريدة موطنى

المتنبىء

بقلم محمد حامد 

طفت ذكرياته القديمة على السطح وتذكر حينما ترك قريته في الريف وحمل أحلامه على أعناقه وقدم إلى المدينة بأضوائها الزاهية من أجل العمل، لم يكن يتصور بأي حال من الأحوال أن يقابل هذا الرجل الذي جعله حائرًا ينخر الشك في عقله، وبعثر كل الأحلام التي كان يحلم بها وذهبت أدراج الرياح في نهاية المطاف.

رآه لأول مرة بعد أسبوع فقط من قدومه إلى تلك المدينة، كان مجرد رجل عجوز بثياب رثة ولحية بيضاء قصيرة وعصا يتكأ عليها، كان يجلس على قارعة الطريق بالقرب من محل عمله حيث لم يجد عمل سوى حارس أمن في مصنع بمبلغ زهيد، وأن ينحي شهادته الجامعية جانبًا ويضرب بسنوات تعليمه عرض الحائط، لكنه تفاءل واعتبر أنها أولى خطواته في طريق الحلم، كان يتفوه بكلمات لم يستطع أن يفقه منها شيئًا وكأنها طلاسم لا يستطيع فكها، فأثار فضوله ذلك العجوز وحاول أن يقتص عنه، أخبره البعض أنه مجرد رجل به آفة من آفات الجنون ويهذي دون أن يلتفت إليه أحد، وأخبره البعض الآخر أنه رجل دجال يضحك على الحمقى ويدعي أنه يتنبأ بالمستقبل ويحذرهم منه دومًا، فأثار ذلك فضوله أكثر فأكثر وأنه لابد أن يعرف سر ذلك الرجل، هل هو دجال أم مجنون أم شيء آخر؟

بعد لحظات طويلة سادها التفكير قرر في نهاية الأمر أن يمرَّ عليه بعد انتهاء عمله وألقى عليه التحية، وجلس بجانبه وحاول أن يتبادل معه أطراف الحديث، ولكنه كان صامتًا تمامًا لا يتفوه بأي كلمة، حتى تسرب اليأس إلى قلبه وقرر في النهاية الرحيل فلا فائدة من الحديث مع رجل مجذوب كهذا، وحينما همَّ بالنهوض طرقت آذانه ضحكات متقطعة تنطلق من فمه فرمقه بذهول لبعض لحظات حتى توقف عن الضحك وقال والحزن يقبع في عينيه:

ـ أنت تذكرني بنفسي في الماضي.

فلمع الفضول في عينيه أكثر:

ـ أنا لا أفهم شيئًا مما تقول.

فأخبره أنه سيفهم يومًا ما فالمرء الذي يفتش عن الحقيقة لا يظل جاهلًا إلى الأبد، وطلب منه الجريدة التي يحملها فأعطاها له بعد تردد دام للحظات، وجلس يتصفحها العجوز وأشار له على بعض العناوين فيها، كان بعضها عن انتخابات تقوم في المدينة والتي تحدث بصفة دورية كل بضعة أعوام، فتفحص أسماء المرشحين واختار منها شخصًا منهم وقال أنه هو من سيفوز بها، وسط عدم اقتناع بما يقوله لأن كل ما يقوله بعيد تمامًا عن الواقع.

ورمق عنوان آخر عبارة عن تصريح لسياسي معروف يهاجم فيه بشراسة أحد الوزراء ونبأه بأنه سيتراجع عن كل ما يقوله وسيتبرأ منه وأيضًا من الحزب الذي ينتمي إليه، والفنان الذي يجرح في سمعة زميله اليوم ويصفه بأقبح الألفاظ، سيعتذر له عن ما بدر منه وسيصبحون أصدقاء كالسابق وكأن شيئًا لم يحدث.

سخر من كل ما يقوله وأنه بلا شك رجل دجال كما يدعي البعض وأنه لا يصدق نبوءاته، ومَّرت بضعة أيام فاز خلالها الشخص الذي توقع العجوز فوزه، وتراجع السياسي عن كل ما قاله وتبرأ منه، والفنان تصالح مع زميله وعادا أصدقاء كالسابق وقالا أن كل ما حدث بينهما الشيطان، وغزت الأفكار رأسه حينها، لابد أن كل ما قاله وتنبأ به هو من قبيل الصدفة لا أكثر، فلا أحد يعلم الغيب ويستطيع أن يتنبأ بالمستقبل، فذهب معه وواجهه بتلك الاتهامات فلم يجد منه إلا نفس الضحكة الساخرة تنبعث من حنجرته، وأنه لا يزال لم يفهم شيئًا بعد، فالتقط منه الجريدة ودار ببصره إلى عناوين الأخبار المختلفة، ولفت نظره تلك المرة بعض وعود الرجل الذي فاز بالانتخابات والتي ينوي إنجازها، فرمق الخبر بعيون حزينة وقال له أنه لن ينفذ منها أي شيء، فرمق العجوز مجددًا بذهول ورحل غاضبًا بسبب أنه لا يفهم شيئًا من ذلك العجوز المصاب بالجنون.

مرَّت الأيام سريعًا وحدث ما توقعه العجوز ولم ينفذ السياسي أي شيء من ما وعد به وظل يماطل ويتحجج بأعذار واهية، فاشتعل الشك في رأسه أكثر عن السابق، فلا يمكن أن تكون تنبؤاته محض صدفة، ولكن لا يمكن أيضًا أن يستطيع أي إنسان معرفة المستقبل فلابد أن هناك سبب آخر يجب عليه معرفته، وقرر أن يذهب إليه ولا يتركه إلا بعد أن يعرف الحقيقة.

فذهب إلى موضعه غاضبًا وطلب منه بنبرة غاضبة أنه يريد أن يعرف الحقيقة ومن هو ولماذا يفعل ذلك، فنظر له العجوز وهو يهز رأسه يمينًا ويسارًا:

ـ ألا زلت لا تفهم شيئًا من ما يدور حولك؟

 وبدأ العجوز يفتش في ذكرياته ليحكي له كل شيء، فقد أتى من الريف قبل أعوامٍ بعيدة، كان مثله مفعمًا بالأمل والتفاؤل حول الأحلام التي يريد تحقيقها وهو في عنفوان شبابه، ولكن حينما عرف بالواقع من حوله اندثرت أحلامه ولم يحقق منها شيئًا، وظل ينبأ أهل المدينة بما سينتظرهم في المستقبل، ولكن لم تصدق الناس كل ما قاله حتى حدث ما توقعه، فاتهموه بالدجل، ومرت الأعوام وظل ينبأ الشباب منهم بالمستقبل، فالتاريخ يعيد نفسه كل مرة دون أن ينتبه لذلك أحد، فهو لا يعلم الغيب بل قرأ الماضي الذي لا يختلف كثيرًا عن الحاضر الذي يعيش فيه، ولكن لم يسمع له أحد من الناس ويكررون أخطاء الماضي مجددًا.

منذ ذلك الحين اندثرت أحلامه وعلم أنها شيء من الخيال لن تتحقق في هذا الواقع، ومرَّت أعوامٍ طويلة وها هو يجلس في نفس موضع العجوز لينبأ الناس بالمستقبل الذي يجهلونه ولكن دون أن يلتفت له أحد، لكنه مستمر في ما يفعل رغم عدم اكتراثهم.

المتنبىء

اكمل القراءة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار