صاحب القرآن
محمود سعيد برغش
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهدَ صاحبُها على عُقلِها أمسَكَها عليه، وإن أغفلَها ذَهبتْ عنه “
شرح الحديث
المعقلة أي المربوطة بالعقال أو بالأحبال، وهو الحبل الذي يشد على ركبة البعير، فصاحب القرآن ينبغي عليه أن يحافظ على القرآن في صدره بالتعهد، وكثرة قراءته ومراجعته من حين لآخر، فإن هذا يساعد على تثبيت القرآن في صدره على مدار حياته.
الإبل المعقلة تحت السيطرة، تستطيع أن تحدد لها مكانا فتجلس فيه، دون راعٍ أو مسيطر، يكفي أنها مربوطة، وما دامت مربوطة، فإنها في أمن وأمان وراحة وسلام، هكذا القرآن، ما دام الإنسان يربطه، ويمسكه في عقله وفي قلبه، ويحافظ عليه، فإنه لا يسمح له بالتفلت، فإذا تركت الإبل أو فككتها ولم تجعلها تتمسك بهذه الأحبال، فإنها تجري هنا وهناك، وتضيع منك، التشبيه هنا من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسم بثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن الإبل المربوطة والموثقة بالأحبال، فإنك تستطيع السيطرة عليها، كذلك القرآن تستطيع الحفاظ عليه من خلال تعاهدك إياه، فأنت بذلك أصبحت رابطا إياه بمراجعات يومية.
والأمر الثاني: أن حب الإنسان واهتمامه بالشيء يجعله محافظا عليه، وأن إهماله يؤدي إلى ضياعه، فما دمت متمسكا بالقرآن مراجعا له، ولك ورد يومي، فالقرآن حبل بينك وبين الله، فإذا ما أهملت القرآن، ولم تجعل لنفسك أحبالا تربطه، فإن القرآن حتما سيتفلت منك ويهرب منك.
الأمر الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم الإبل، ولم يقل مثلا: كمثل صاحب البقر، أو الأغنام، أو الجاموس، أو الحمير، أو البغال، وإنما استخدم الإبل؛ لأنها أقوى الحيوانات المعروفة، التي يباح أكلها، يقول تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17]، الإبل مختلفة في تركيبها عن باقي الحيوانات، يعني: القرآن الكريم مختلف تماما مثل الإبل عن باقي كلام العرب من شعر ونثر وغير ذلك، ويتسم القرآن بالقوة والشدة، يقول تعالى: { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل: 5].
القرآنُ الكريُم هو كلامُ اللهِ المقَدَّسُ، والمسلِمُ مطالَبٌ بأن يقومَ بحِفْظِه ومعرفةِ ألفاظِه ومبانيه ومعانيه؛ فهو طريقُ الهِدايةِ والصَّلاحِ، فينبغي تعَهُّدُه والمداومةُ على قراءتِه ومراجعتِه حتى يظَلَّ ثابتًا في العَقلِ والقَلبِ، وقد شَبَّهَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا الحديثِ حافظَ القرآنِ وحامِلَه بصاحبِ الإبلِ المربوطةِ المشْدودةِ بالحِبالِ، فقال: «إنَّما مَثَلُ صاحِبِ القرآنِ» وهو الذي ألِفَ تِلاوةَ القرآنِ «كمَثَلِ صاحبِ الإبلِ المعقَّلَةِ » وهي الجِمالُ التي عَقَلَها صاحبُها، فربط أرجُلَها بالحبالِ؛ لأنَّها شَرُودٌ، وقد تهرُبُ وتبعُدُ عنه بحيث لا يمكِنُه استرجاعُها، ولكن «إنْ عاهَدَ عَليها» بأنْ راقَبَها، وأبقاها مَربوطةً، بَقِيَت عنده محفوظةً من الضَّياعِ، «وإنْ أطْلقَها ذَهبَتْ»، أي: وإنْ فَكَّها مِن حِبالِها -وهي شَرُودٌ- هَربَتْ وانْفَلتَتْ، والحَصْرُ في قوله: «إنَّما» هو حَصْرٌ مَخصوصٌ بِالنِّسبةِ إلى الحِفظِ والنِّسيانِ بِالتِّلاوةِ والتَّركِ، وشَبَّه درْسَ القَرآنِ واستمرارَ تِلاوتِه بِربْطِ البعيرِ الذي يُخْشَى منه أنْ يَشْرُدَ؛ فما دامَ التَّعاهُدُ مَوجودًا فالحفظُ مَوجودٌ، كما أنَّ البعيرَ ما دامَ مَشْدودًا بالعقالِ فهو مَحفوظٌ، وخَصَّ الإبلَ بالذِّكرِ؛ لأنَّها أقربُ شَيءٍ إلى الهروب، وكذلِك القرآنُ يَتفَصَّى ويَذْهَبُ مِن صُدورِ العِبادِ إنْ لم يُتاعَهَدْ ويُقْرَأْ أبدًا ويُتذكَّرُ؛ فبذلِك التَّعاهُّدِ وبتَيسيرِ اللهِ تعالَى وعَونِه لعبادِه عليه، يَبْقَى في صُدورِهم.