قصة قصيرة :- نخلة سلطاني
رأيتك ياصديقى..برغم ظلال النهار المريض ..تنام على بقايا سريري ..وأشعة الشمس ما تلبث من خلال سقف العشة .. أن تنقش على جسدك العجوز إشكال كثيرة لحيوانات خرافية .
كنت ياصديقى ، برغم هذا الزمان العبيط..تضحك وأنت تشير إلى هذه النخلة :
تعرف يا محمد .. النخلة ديه نخله سلطاني .
أندهش برغم تكرار العبارة للمرة الألف.. وألملم من حواري حياتي كل النزوات ..وأسقها في طبق من الديناميت .. وأنتظر .. تضحك وأضحك .. حتى تسقط دموع الدهشة من عيني فتفاجئني ببقايا أحلام كثيرة تحترق ..أحاول أن أتحدث أن أرفع من صوتي.. فتقابلني بزوج من الأعين الحزينة ، تسكتني ..نتقارب .. نتداخل .. نكشف عن إسرار الكون .. وقبل أن تتجمع أول دمعة ..تدير ظهرك فأتابعك وأنت ظل طويل .. ينتشر على مساحات كثيرة من دروب القرية ..وتبدو لي قصيرا وأنت تلقم النهر بطول ذراعك حجرا ..أقترب منك ..تقترب دوائرك من شاطئي تتزاحم ..تتكسر ..فتعاود قذف الحجر .. في صمت أيضا أتهيأ للدخول إليك ..ثم انتبه إلى صوت يخرج من أحشاء النهر من أطراف القرى :
تشرب شاي .
أهز رأسي ..ويحملني موج النهر بطول البلاد وعرضها ..أجمع أشلاءك من بقايا خرائط قديمة ..وأرسمك ظلا لفتى رأسه الدلتا وجسده الوادى ، شعره يلامس الماء الأبيض ..يدفع بكفيه موج البحر ليحميني ..ويحمى كل البلاد .. وحدي أتحسس أجزاءك وأسد ثقوب تجاويفك..وحدي ووحدك تشرق الشمس علينا ..وحدي أسمع صوتك يتوشح بالحزن :
تعرف جدي الكبير كان جنايني ..عند الملك والملك كان أسود طويلا ..جدي لم يعرف الحزن ..قلبه قلب طفل .
أتداخل عندما تبدأ بسرد الحكاية التي اعرفها عن ظهر قلب ..نعم ..نعم
أهز رأسي للمرة العاشرة ..وعندما تصل إلى أن ، جدك قد سرق تمرة كاملة من النخل السلطاني ..وجاء إلى ولده وهو يرتجف يغلق خلفه إلف باب وباب ..يطفئ ضوء المصباح وضوء الشمس ..ينادى على ولده الكبير..ينسحب الولد من جوار زوجته يتركها وهى تغلق شفتيها وتضرب بيدها الحائط :
ماذا يا أبى.
يجلس جدك على سرير جريدي قديم ..بين الصمت والظلمة.. ويعيد فك العقد الثلاثة ,,يلتفت حين تقع التمرات الثلاثة على الأرض ..يتناول باليد اليمنى تمر’ صغيرة ناشفة وباليد الأخرى يتناول عود ثقاب مشتعل ..يقربه من التمرة ..التي تبدوا كبيرة على الحائط .. يتهرب ظلها من بين أصابعه..ليرسم ظل الجد وأبنه .
– هل ترى يا ولدى ؟
– ماذا يا أبى ؟
– هذه تمرة سلطاني ..من النخل السلطاني ، من يأكل منها يصبح سلطان البلاد .
يعترض الولد ويرفع من صوته قليلا
– لكنها يا ولدى تمرة من آلاف التمرات
يغضب الجد ويرفع خمس أصابع بطول النخلة ..يهبط بها على وجه الولد..يتألم الولد وبصمت يسحب وجهه من أصابع الأب ويبكى ..صوت الأب يملأ فراغات الحجرة المرتعشة .
-أوصيك ياولدى أن تزرع هذه التمرة وترعاها ..حتى تصبح نخلة سلطاني
يهز الولد رأسه غير مصدق..ويوارى سوءات أبيه.. يبكى قليلا ويضحك كثيرا .. ويأمر زوجته ذات العيون الجميلة ،أن تحكى له حكاية الثلاث بنات ..في الزمن الأول زرع الولد الأرض.. بأبعاد متساوية وضع التمرات الثلاثة..ثم نفض يده..وعاشر زوجته حتى تحمل ..شاهد من شباك بيته الوحيد زمنا يمر أشار إليه لكنه لم يتوقف ..ينظر الولد إلى زوجته فيرى بطنها ترتفع ..والأرض في الخارج لم تخرج من باطنها غير تمرة واحدة ..يحزن الولد ..يوصى الجد عندما مات أن يدفن بجوار النخلة حتى يحرسها..ويشاهد من مرقده أحد أحفاده يأكل منها ..بدت النخلة كبيرة .والجد مات من زمن ..وجاء الحفار ابن قريتنا وقال :
إن مياه النخلة تسربت إلى القبر فتشقق وضاق على الجد.
رفض الولد نقل أبيه ..وأصر الحفار ..وعلم الابن بعد ذلك من أطفال قريتنا ،أن الجد لم يقابل الحفار وان القبر واسع كأنه روضة من رياض الجنة ..لكن الشيء المؤكد أن القبر أصبح على الربوة العالية وحيدا بعيدا عن النخلة ..والنخلة ظل وحيد من دون تمرات ينتشر.. يتكوم فوق النهر ..الابن بجوار زوجته يتقلب بقلق..لم تنجب النخلة في السنة الماضية تهمس :
– قالوا إن ذكور النخل اضعف من أن تلامسها
حمل الابن أشياءه فوق كتفه وذهب عند الصباح يتدثر بعباءة الجد الذي مات
وكنت يا صديقي عندها صغير أ ..قالوا لك أن بلاد الله تنجب ذكور نخل عفية .
ما قالته أم صديقي قبل أن تموت .
-كان يرحل خلف دروب القرية ..ينام بجوار ناظر المحطة ..يتسلق النخلة ليشاهد قطارات الليل الراحلة دون وداع .
ما قاله الرجل الذي يحمل تراب السفر
– أن الأب أسلمته البلاد إلى بلاد يرحل خلف ذكور النخل العفية
لكنه حين تحسس جزع النخلة قال :
العمر قصير
ومضى .. أسرع الولد خلفه.. يتحسس خطاه خلف دروب القرية ..التي أسلمته إلى قطار العاشرة ..عاد يبكى ، وفى الليل حمل فأسه الصغيرة وخرج يحطم قضبان القطارات الطويلة .
أخر الحكاية قبل أن يوضع صديقي في القبر .
آخر النهار .. قبل أن تضم الشمس رموشها وتدخل ..وضع غراب قدميه على رأس النخلة ..ونعق فينا ..أغلق صديقي فتحت جلبابه ..وخرج من باب العشة ..تلفت يمينا ويسارا ..وعندما شاهد الغراب على ظل النخلة ..غضب وأحمر وجهه..وقذفه بطول ذراعه بعدة أحجار ..لكن الحجر الأول لم يصل إلى نصف النخلة ..حاول في الحجر الثاني لكنه لم يصل إلى نصف النخلة ..حاول مع الثالث وعندما فشل أيضا ، قرار أن يصعدا النخلة ..ربط الحبل بوسطه ، ونظر إلى النخلة لم يشاهد لها آخر ، فرح ، وبسرعة تسلق النخلة ..ثم باتت حركته تبطئ حتى توقف عند منصف النخلة أزاح من رأسه حبات الحلم ..ونفض جناحيه وطار ..حوله النهر بذارعيه يحتضن البيوت والمآذن والناس ..صرخ صديقي وأخذ يصعد ويصعد ..وعلى قمت النخلة جلس ..وحده ..والبيوت والحواري والخرائط تحته لا يراها.. أشرقت الشمس وغابت وصديقي على قمة النخلة .
حين اجتمع الناس آخر النهار قال أولهم إلى أخرهم :
– أنه شاهد ذكر النخل يركب جناحي غراب ويهبط به داخل النخلة وأن صديقي يأكل منها .
لكن أولهم صرخ في أولهم وأنقض على ذراعه وسحبه بعيدا ووقف يهتف :
لم يصل إلى نصف النخلة .
ما قالته العجوز.
– ظل الولد عندما مر ضاجع نساء القرية فحملت منه أبنتها العانس
ما قاله الصياد :
إن الشبكة كأن بها حوت بطول النخلة .. الحوت خاف من ظل الولد وهرب من ألشبكه .
ما قاله الفلاح :
إن ثمار الشجرة عادت إلى باطن الأرض .
لكن الذي لا أشك فيه برغم ذلك ..أن صديقي قد مات .. وأن النخلة لم تنجب ..وأن الظل قد ضاع ..حملته أشباح صغيرة وربطت به شاطئي النهر .
بقلم :- محمد الليثى محمد أسوان
تحرير: محمد رأفت